لندن | كما مصر هِبة النيل، فإن إسرائيل هِبة بريطانيا. لندن التي ابتدعت فكرة وطن قومي للطائفة اليهودية في فلسطين، بذلت جهوداً دبلوماسية وعسكرية ودعائية هائلة لفرض المشروع بمحض القوّة على التركيبة الديموغرافية للمنطقة، وجهّزت خلال ثلاثة عقود من الاحتلال (سُمّي حينها انتداباً) البنية التحتية للدولة العبرية التي أُعلن قيامها رسمياً في عام 1948. وقد استمرّت العلاقة حميمة بينها وبين ربيبتها الصهيونية منذ ذلك الحين، وإن أخلت مكان الصدارة تدريجياً للولايات المتحدة، بعد العدوان الثلاثي الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي على مصر في عام 1956.ولعلّ كثيرين لا يُدركون أن مستوى العلاقات العسكرية بين الطرفين يصل اليوم إلى ما يمكن وصفه بالشراكة الاستراتيجية الكاملة، تدريباً وتسليحاً ومناورات وعمليات مشتركة، فضلاً عن التعاون الاستخباري الكثيف في ما يتعلّق بالمناطق الساخنة في الشرق الأوسط - وخصوصاً سوريا ولبنان -، والتنسيق الأمني والدعائي في أوروبا والتشبيك مع دول الخليج. وتلتزم الصحافة البريطانية صمتاً مطبقاً في شأن تفاصيل تلك الشراكة، على رغم أن أيادي النظام الملكي تقطر من دماء الفلسطينيين والسوريين والعراقيين واليمنيين، فضلاً عن توفيره مظلّة حماية وأمان فولاذية للسلالات العربية الحاكمة الحليفة لإسرائيل.
وبحسب الاستراتيجية العسكرية الجديدة للمملكة المتحدة، والتي حُدّثت من قِبَل فريق حكومة بوريس جونسون في آذار الماضي، فإن «إسرائيل تظلّ شريكاً استراتيجياً رئيساً». وكان القادة العسكريون في الدولتين قد وقّعوا، قبل تحديث تلك الاستراتيجية بأشهر، اتفاق تعاون لإضفاء طابع رسمي على العلاقات في مسائل الدفاع ودعم «الشراكة العسكرية المتنامية بين إسرائيل والمملكة المتحدة» وتعزيزها. وقد عبّر السفير البريطاني لدى إسرائيل، نيل ويغان، وقتها، عن مطلق سروره من الاتفاق، قائلاً إنه «سيعني مزيداً من تعميق تعاوننا العسكري»، من دون الإدلاء بأيّ معلومات عن بنوده، لكن من الواضح - وفق مراقبين متخصّصين - أن الجيشين «يدمجان قدراتهما في المجالات البحرية والبرّية والجوية والفضائية، إلى جانب الحرب الإلكترونية والتطبيقات الكهرومغناطيسيّة».
وبحسب مواقع متخصّصة ترصد الأنشطة السرّية للحكومة البريطانية، فإن الأنشطة التدريبية المشتركة بين البلدين مسألة روتينية للغاية، وإن تراجعت وتيرتها نسبياً خلال العام الماضي لأسباب لوجستية بحتة مرتبطة بجائحة «كوفيد-19». وقد تلقّى ضبّاط إسرائيليّون تدريباً عسكرياً متقدّماً في المملكة المتحدة، في دورتَين على الأقلَ خلال عام 2019، فيما يستمرّ طيّارو سلاح الجوّ الملكي البريطاني في الاستفادة من تدريب طيران افتراضي، تشارك في إدارته شركة الأسلحة الإسرائيلية «إلبيت سيستمز»، ويتمّ تقديمه في القواعد الجوّية البريطانية كافة.
تتولّى بريطانيا بشكل نشط، ومنذ عقود، تعزيز القدرات القتالية النووية لإسرائيل

ولهذه الشركة الإسرائيلية مقرّ رئيس إقليمي في مدينة أولدهام - شمال شرق مانشستر -، وهي تنتج عبر أحد فروعها بالقرب من مدينة برمنغهام محرّكات للطائرات بدون طيار، فضلاً عن أجزاء أخرى في سبعة مصانع تتوزّع حول الجزيرة البريطانية. وتفيد معلومات بمشاركة طيّارين إسرائيليين يقودون طائرات «إف - 15» الأميركية الصنع - وهي التي تتولّى الجزء الرئيس من طلعات قصف قطاع غزّة هذه الأيّام - في مناورات جوّية مع البريطانيين، كما في مناورات تدريبية أوروبية تضمّ إليهما كلّاً من ألمانيا وإيطاليا، إضافة إلى مشاركتهم زملاءهم الأميركيين في مناورات سلاح الجوّ الإسرائيلي التي تجري شرق المتوسط. ويداوم ضبّاط إسرائيليون، بشكل دوري، في قاعدة وادنغتون الجوّية، التي تُعدّ مركز العمليات الرئيس لأسطول الطائرات البريطانية المتخصّصة في التجسّس. وقد حلّ قائد سلاح الجوّ الملكي، المارشال الجوي السير مايك ويغستون، ضيفاً على نظيره الإسرائيلي في آذار/ مارس الماضي، وقال للصحافيين وقتها: «لقد تشرّفت بزيارة القوات الجوّية الإسرائيلية، واحتفينا بتراثنا المشترك، وشراكتنا الدائمة، واستكشفنا العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك».
وما ينطبق على التعاون بين الطرفين في القتال الجوّي، يماثله وقد يفوقه التعاون بينهما في مجال البحر، حيث تشارك القوات البحرية الملكية سنوياً في مناورات التدريب التي تجريها القطعات الإسرائيلية قبالة شواطئ فلسطين المحتلّة.
ويوجد عشرة ضبّاط بريطانيين، على الأقلّ، بشكل دائم في إسرائيل، بما فيها الأراضي الفلسطينية المحتلّة في الضفة الغربية، عدا عن الطاقم المكلّف بالملحقيّة العسكرية وأمن البعثة الدبلوماسية للمملكة المتحدة لدى تل أبيب. ومن المعروف أن كوادر بريطانيين يساعدون المنسّق الأمني الأميركي الذي يتولّى ضمان التزام القوات التابعة للسلطة الفلسطينية بالتعاون الأمني مع الأجهزة الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن معظم تسليح جيش الاحتلال أميركي المنشأ، إلّا أن هناك تبادلاً مستمرّاً لشراء الأسلحة بين البريطانيين والإسرائيليين. ويقدَّر حجم صادرات لندن السنوية من المنتجات العسكرية إلى إسرائيل، بحدود 500 مليون جنيه إسترليني (حوالى 700 مليون دولار أميركي)، فضلاً عن تزويدها الكيان بالمكوّنات المستخدمة في تصنيع وصيانة الطائرات المقاتلة الأميركية الصنع، من مثل أنظمة إطلاق الصواريخ لمروحيات «أباتشي»، وشاشات العرض الرأسية لطائرات «إف -16». ولا تفرض المملكة المتحدة أيّ شروط على منح تصاريح تصدير الأسلحة والمعدّات إلى دولة الكيان، أو على طريقة استخدامها. وفي المقابل، تشتري بريطانيا من إسرائيل معدّات للقتال البحري، وطائرات من دون طيّار.
وبينما ترفع بريطانيا عقيرتها عالياً ضدّ حصول إيران على قدرات عسكرية نووية، تتولّى في المقابل، بشكل نشط - منذ عقود -، تعزيز القدرات القتالية النووية لإسرائيل، بما في ذلك تزويدها بتقنيات الغوّاصات النووية والمواد المشعّة اللازمة لتصنيع الرؤوس النووية كالبلوتونيوم واليورانيوم. ويقدّر متخصّصون امتلاك إسرائيل لـ80 رأساً نووياً على الأقلّ، لا تقلّ كفاءة كلّ منها عن القنابل التي ألقاها الأميركيون على هيروشيما وناغازاكي. لكن المجال الأوسع للتعاون البريطاني - الإسرائيلي يظلّ، بالطبع، العمليات الاستخبارية التي يلفّها ستار سميك من السرّية. وكان إدوارد سنودن قد سرّب وثائق سرّية أميركية، في عام 2014، أظهرت تعاوناً وثيقاً لجهاز التجسّس على الإشارات البريطاني، المعروف باسم «GCHQ»، مع نظيرَيه الأميركي والإسرائيلي، ما يعني أن كلّ ما يهمّ الجانب الإسرائيلي من معلومات حسّاسة يتمّ نقله غالباً من دون قيود من الأجهزة الأميركية والبريطانية، التي تتولّى مراقبة جميع أشكال الاتصالات عبر العالم. وتحدّث رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، علناً، مرّات عديدة، بامتنان، عن هذا التعاون الثلاثي الذي مكّن إسرائيل في مناسبات عديدة من تجنّب خسائر ممكنة في الأرواح.
وقبل موجة التطبيع الأخيرة لدول الخليج مع الكيان العبري، قدّم الوجود البريطاني، سواء كجاليات ضخمة أم كتعاون رسمي وتجاري وعسكري، للإسرائيليين، مظلّة ورصيداً للتغلغل في مفاصل الأنظمة الحاكمة هناك. وللقوات البريطانية، كذلك، وجود عبر وحدات عسكرية تسمّى «الوحدات الثقافية» يتولّى تدريبها أكاديميون (بعضهم عرب) في كلّية الدراسات الشرقية في جامعة لندن، تنفّذ مهمّات جاسوسية ودعائية لإحباط روح المقاومة عند السكّان المحلّيين، انطلاقاً من قاعدة إقليمية لها في الأردن. وبحسب ضابط بريطاني سابق تحدّث إلى «الأخبار»، فإن جهود «الوحدات الثقافية» البريطانية هناك تشمل بشكل رئيس سوريا في هذه المرحلة، إضافة إلى لبنان وفلسطين المحتلّة، كما أن ثمّة تعاوناً أكيداً في هذا الشأن مع الإسرائيليين.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا