غزة | مع بداية الأسبوع الثاني من المواجهة الجارية بين المقاومة وجيش العدو، تَدخُل الأولى مرحلة جديدة في تثبيت معادلات القصف. فبعد تراجع الثاني عن قصف الأبراج عقب الضربة الكبيرة لتل أبيب فجر أول من أمس (جرت بعد رفع الحظر عنها لساعتين)، عادت المقاومة إلى تغيير المعادلة وتجديد تهديدها بقصف المدينة مجدّداً في حال لم يتوقّف الاحتلال عن استهداف الشقق السكنية والمباني في غزة. صيغةٌ صمدت بالحدّ الأدنى إلى منتصف الليل، ليُعلّق مراسل قناة «كان» العبرية بالقول إن هناك «انخفاضاً كبيراً في القصف على غزة بعد تهديد أبو عبيدة»، على أن الساعات اللاحقة قد تحمل تطوّرات أخرى.ومع استنفاد العدو بنك أهدافه باعتراف مُحلّليه وإعلامه، بدأ انتهاج سياسة جديدة لاستهداف المصالح الاقتصادية في القطاع، كجزء من أدوات الضغط على المقاومة، بعدما أخفق في التأثير في مسار المعركة، على رغم استهدافه الحاضنة الشعبية للفصائل. وتمثّل ذلك في قصفه أمس مصنعَين كبيرين للإسفنج والمواد الزراعية. وكشفت إحصاءات أوّلية نشرها المحلّل الاقتصادي، محمد أبو جياب، عن تدمير الاحتلال 40 منشأة صناعية، إضافة إلى أكثر من 300 مصلحة تجارية ومحالّ ومخازن، كما تمّ إغلاق وتدمير مئات المنشآت السياحية، فضلاً عن التدمير الكبير والممنهج للطرقات وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، مُقدِّراً الخسائر المباشرة بأكثر من 200 مليون دولار.
على المستوى الناري للمقاومة، بدا واضحاً أنها إلى جانب استمرار استهدافها مدن عسقلان وأسدود وبئر السبع ومستوطنات «غلاف غزة» بوتيرة منتظمة، ركّزت نيرانها أمس على مستوطنات «غلاف غزة»، وتحديداً على التحشيدات المدفعية الكبيرة لقوات الاحتلال هناك، حيث أطلقت عليها زخّات من الصواريخ وقذائف الهاون التي أدّت إلى إصابة عدد من الجنود بإصابات محقّقة وفق المصادر العبرية، فيما لا تكاد تتوقّف الرشقات على المستوطنات التي طلب رؤساء بلدياتها من الحكومة الإسرائيلية الاستمرار في العملية العسكرية «حتى القضاء على حماس». وفي المقابل، انتقل العدو بتركيز نيرانه إلى المنطقة الساحلية للقطاع، وشنّ عمليات قصف مركّزة على الشواطئ بعد يوم من إطلاق المقاومة غوّاصات مُسيّرة تجاه منشأة غاز «تمار» القريبة من غزة، لكنه واصل عمليات استهداف الشقق السكنية ومنازل المواطنين ــ حتى تهديد «أبو عبيدة» عصر أمس ــ ليُدمّر 15 منزلاً ويستهدف الأراضي الفارغة والمناطق الحدودية.
بين المشهدين، بدت واضحة حالة التفاوض بالنار بين المقاومة والعدو، إذ أظهرت القوة النارية المرتفعة بالوتيرة نفسها لدى المقاومة، رغبة واضحة في إدارة تلك القوة لمدّة طويلة ــ استناداً إلى تصريح «كتائب القسّام» بجاهزيّتها لقصف تل أبيب لستة أشهر متواصلة ــ، وذلك في رسالة إلى الاحتلال الذي يريد إنهاء المعركة في أقصر وقت مع الحصول على صورة النصر، وهو ما لم يستطع الوصول إليه حتى الآن. كما أن المقاومة تُصعّب عليه المسألة، وتُواصل ربط ما يجري في غزة بالأحداث الجارية في القدس المحتلة، إذ أهدت «القسّام» في تسجيل مصوَّر عملية إطلاق رشقات من الصواريخ إلى روح الشهيد شاهر أبو خديجة، مُنفّذ عملية الدهس في الشيخ جراح، بعد يوم من إهداء صواريخ أخرى إلى أرواح رموز شهداء المقاومة في الضفة والقدس.
بعدما أخفق العدو في هزّ الحاضنة الشعبية بدأ ضرب المصالح الاقتصادية


على مستوى المباحثات الرامية للوصول إلى تهدئة، جدّد مصدر في «حماس»، خلال حديثه إلى «الأخبار»، تأكيده تعثُّر الوصول إلى اتفاق (حتى كتابة النص)، مشدداً على أن الحركة لا تزال عند شروطها المتعلّقة بالقدس، وأنها «ستواصل المعركة من دون توقّف إلى حين رضوخ الاحتلال». والأخير يبدي تخبّطاً ــ أو حرباً نفسية وإعلامية ــ ما بين تصريحات بقرب انتهاء المواجهة قبل الخميس المقبل عبر مستويات في الجيش، وبين إعلان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الاستمرار في العملية ضدّ غزة «ما دعت الحاجة إلى ذلك ومن أجل استعادة الهدوء». ويبدو من خلال القرارات التي يتخذها المستوى السياسي في تل أبيب، قرب إعلانه انتهاء العملية العسكرية، خاصة حديثه عن «إغلاق المسجد الأقصى أمام اقتحامات المستوطنين حتى إشعار آخر».
دولياً، يواصل نتنياهو استناده في استمرار الحملة على غزة إلى الدعم الأميركي، إذ لم يطلب الرئيس جو بايدن منه إيقاف العملية، على رغم اتصاله به للمرّة الثالثة ــ منذ بداية الحرب ــ ليلة أمس، فيما استبعد دبلوماسيون التوصّل إلى اتفاق قريب من جرّاء الهجمات الكبيرة بين الاحتلال والمقاومة. وثمّة مؤشر آخر، هو شبه الاتفاق بين نتنياهو وشريكه في الحملة العسكرية، وزير الأمن بيني غانتس، على تأليف حكومة جديدة بعد انتهاء التفويض ليائير لابيد الأسبوع المقبل، وهو ما يعني تحقيق أهمّ أهدافه، أي إنقاذ نفسه من السقوط أو انتخابات جديدة. ومن المؤشّرات الأخرى ما نقله مسؤول في السلطة عن أن «الجانب الاسرائيلي أبلغنا فتح معبر كرم أبو سالم غداً الثلاثاء لساعات محدودة لإدخال كمّيات من السولار القطري الخاص بمحطة توليد الكهرباء، وأدوية ومواد غذائية للمؤسّسات الدولية، وكمّيات من أعلاف الحيوانات»، وهو ما يمهد لخطوات من قبيل الوقف الأحادي للعمليات، مع إعطاء المقاومة شروطها بشأن القدس، لكن على الطريقة الإسرائيلية، ومن دون أيّ وعد بالسماح بإعمار القطاع.
وبخلاف المضمون الذي نقله مكتب نتنياهو حول اتصال بايدن، تزامن الاتصال الأميركي ــ الإسرائيلي مع اتصال مسؤولين مصريين كبار برئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، إسماعيل هنية، ما قد يشير إلى تواصل المباحثات التي تدفع بها واشنطن لإنهاء المواجهة القائمة، وقرب انتهاء المهلة التي تمنحها واشنطن لتل أبيب لوقف النار. والملاحظ أنه مع استمرار الضغوط، وبوادر تغيّر الموقف الدولي تجاه إسرائيل، ظهرت خشية لدى الأخيرة من هذه التحوّلات، خاصة عقب زيادة التظاهرات في الدول الأوروبية، وحتى في الولايات المتحدة نفسها، وتراجع الدعم لها، ما سيؤثر فيها مستقبلاً، وذلك بعد تقديرات بخسارة إسرائيل تعاطف غالبية دول العالم وشعوبه، وحتى جيل الشباب الأميركيين، طبقاً لمعلّقين إسرائيليين في «القناة الـ 12» العبرية.
أمّا على الأرض، فتشتدّ المعركة الأمنية بين المقاومة والاحتلال الذي بدأ تفعيل كلّ ما يملكه للوصول إلى معلومات عن المقاومة ومقدّراتها. وهنا، يكشف مصدر أمني، في حديث إلى «الأخبار»، أن «جهاز الأمن العام» الإسرائيلي (الشاباك) طلب من عملائه التحرّك بسرعة لجلب معلومات عن المقاومة من جرّاء عجزه عن الوصول إليها عبر الطائرات المسيّرة، الأمر الذي «كانت المقاومة مستعدّة له، فاعتقلت عدداً منهم وأحالتهم إلى التحقيق»، وهو ما أغضب الاحتلال الذي ركّز خلال اليومين الماضيين ضرباته على مقرّات تابعة لجهاز «الأمن الداخلي» في وزارة الداخلية، فضلاً عن استهداف رجال أمن المقاومة العاملين في الميدان.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا