حين اندلعت جولة المواجهات السابقة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في عام 2014، لم تكن التحوّلات في المنطقة والعالم قد اكتملت بعد. انهيار نظم الإقليم التي كانت تدير الصراع مع إسرائيل(سوريا تحديداً) لمصلحة الحركات الإبادية مثل داعش والنصرة لم يكن مؤكَّداً، وخصوصاً مع التدخّل الروسي في عام 2015 الذي كبح هذا الانهيار لحساب معاودة الإمساك بالوضع، ولكن في غياب دور إقليمي واضح، يمكن للمقاومة الفلسطينية الاتكال عليه، في لحظات مماثلة. هذا الارتباك لم ينسحب على أداء المقاومة الفلسطينية حين ذلك، حيث عرفت كيف تحتوي الهجوم الإسرائيلي عبر مراكمة الخبرات، واعتماد استراتيجيات قتالية لم تكن قد اختُبرت بعد، وبالتالي خرجت من الحرب إن لم نقل أقوى، فأقلّه بمزيد من الخبرة القتالية وبرصيد سياسي أضفى مزيداً من الشرعية على شكل مواجهتها لإسرائيل، في انتظار المعركة المقبلة.
تغيُّر مفهوم الردع
على أنّ الردع الذي تحقَّق في غزّة، وفي جنوب لبنان قبلها، لم ينسحب على ميزان القوى المتغيِّر بين إسرائيل وخصومها الرئيسيين من «دول الطوق». فسوريا التي أنقذها التدخّل الروسي من الانهيار، شهدت بسبب الحرب نقاطَ ضعفٍ عديدة، أفضت إلى جعل تدخّل إسرائيل بالقصف، سواءً من الجولان المحتلّ، أو عبر الحدود الغربية مع لبنان، عاملاً متكرّراً في المشهد الخاصّ بالحرب. وهو ما قاد ليس فقط إلى الانتهاك المستمرّ للسيادة هنا، بل أيضاً إلى جعل الذرائع الإسرائيلية الخاصّة باستهداف القوات الإيرانية مصدراً لتآكل مفهوم الردع نفسه، الذي يقوم على امتلاك الدولة قوةًّ عسكرية، برية وبحرية وجوية، تمنع العدوّ من استهدافها. ومن هنا أتت فكرة «المحور» الذي يَقوَى بتضافر عناصره لا بتفكُّكها، حيث القوّة هنا يمكن أن تكون على حساب الدولة أو السلطة التي تربط بين عناصر هذا الأخير. قوّة حماس بهذا المعنى، ومعها حزب الله الذي اكتسب بفضل وجوده في سوريا خبرات إضافية، عسكرية واستراتيجية، ازدادت مع تقوُّض قدرة الدول نفسها التي كانت تدعم هذه التنظيمات على المحافظة على وتيرة المواجهة مع إسرائيل، وفقاً للمعادلة السابقة. حريّة العمل ضدّ الكيان الصهيوني ترافقت هنا مع انحسار واضح للسيادة الدولتية بشكلها المتعارف عليه، أي بمعنى السيطرة المُطلَقة على الحدود، والتحكّم حتى بالعمليات القتالية التي تحدث بين الفينة والأخرى، بغية تعديل موازين القوى مع إسرائيل. هكذا انتقل التحريك المتواتر للصراع بين الحروب، ومعه الردع، من ضفّة النّظم نفسها إلى التنظيمات التي لم تكن بعيدةً عنها، ولكنها كانت مقيّدة في حركتها، بفعل خضوع مواجهتها لمنطق الصراع بين الدول. هذه المرونة انعكست ليس فقط على شكل المواجهة، بل أيضاً على نوعيّتها، لجهة مستوى التسليح الذي ازداد كمّاً ونوعاً، بدليل تطوُّر العمليات القتالية من حرب إلى أخرى. حيث كانت حصيلة المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في جولة عام 2014 أفضل من نظيرتها السابقة في عام 2009، ويبدو من طبيعة المواجهة الحالية أنها ستكون أفضل هي الأخرى من سابقتها، وهكذا دواليك. إذ في غياب حضور الدول التي كانت تضع حدوداً للمواجهة يصبح أداء التنظيمات أفضل، ولكن ليس من دون حلول دول أخرى في الإقليم مكانها، وإن لم يكن بمحورية دورها وأهميّته.
يُعدُّ الناشطون والقوى المحليّة الفلسطينية سمة بارزة للمواجهة الحالية


اتساع جغرافيا المواجهة
السمة الأبرز للمواجهة الحالية، بالإضافة إلى عنصر التسليح والتذخير الخاصّ بالصواريخ هي الجغرافيا المتحرّكة، ليس فقط لعناصر المقاومة بل أيضاً للناشطين والقوى المحلّية التي لم تكن بهذا الحضور سابقاً، ولا بهذه القدرة على الاشتباك وتوفير الدعم للجبهتين الأساسيتين في القدس وغزّة. مشهد الشيخ جرّاح، على أهميّته ومركزيته في إطلاق الشرارة الأولى لم يكن ليحرّك كلّ هذه المجاميع لولا الترابط الذي بدا أنه العامل الأساسي في الجمع بين التراكمات الخاصّة بكلّ نضال من النضالات الفلسطينية على امتداد فلسطين التاريخية. رفع مستوى الأداء في كلّ مواجهة تحصل في غزة كان مترافقاً مع تطوُّرٍ مماثل، على صعيد المواكبة الميدانية لها على امتداد البلاد، وهو ما لم يكن منظوراً بالقدر الكافي، حتى من جانب الاحتلال، لأنّ التقديرات الاستخبارية كانت محصورة بجبهات المواجهة، أي بغزّة، وأحياناً بالضفة والقدس لدى حدوث اشتباك أو ازدياد وتيرة الاستيطان إلى حدود كبيرة. عدم توقّع الانفجار في أراضي الـ48 أو خلف الخط الأخضر أتى نتيجة ليس فقط قصور استخباري بل أيضاً الرهان على نجاح دمج هؤلاء في السردية الاستعمارية التي تقوم على الفصل بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وخارجه، حيث لا دخل لفلسطيني الـ48 بما يحدث على أراضي الـ67, على اعتبار أنهم مُستَثنون من حلّ الدولتين، بحكم انتمائهم إلى دولة إسرائيل. وهذا يعني أنّ حقوقهم محصورة بتوسيع هامش التمثيل السياسي داخل مؤسّسات الدولة الإسرائيلية، وفي حال حصول انتفاضات أو هبّات كتلك التي حدثت على مراحل في الضفة والقدس وغزة، فلا يجب أن يكونوا معنيين بها على نحو خاصّ، لأنها تقع خارج دائرة مطالبهم وحقوقهم و..الخ. والحال أنّ خطاب الأحزاب العربية في الكنيست الإسرائيلي قد ساعد على توفير غطاء لهذه السردية، من دون أن يكون ممثّلاً بالضرورة لها، لأنّ هذه الأحزاب لعبت في النهاية دوراً كبيراً في الدفع بالنضال السياسي داخل فلسطين التاريخية قُدُماً. محدودية ما تم تحصيله داخل هذه الأطر السياسية الخاصّة بفلسطينيي الـ48 هي التي جعلت الأجيال اللاحقة، ومنها الجيل المنتفِض حالياً في اللدّ والرملة وعكّا وحيفا و..الخ، تبتعد عن خطاب الحقوق الذي روّجت له السردية الاستعمارية، وأحياناً الوطنيّة في الداخل لمصلحة معاودة الانخراط في كفاح الفلسطينيين، لا أقول خارج الخطّ الأخضر فقط بل على امتداد فلسطين التاريخية، من أجل التحرّر الوطني من الاحتلال الاستيطاني. وهو ما يفسّر اندلاع المواجهات بهذا الشكل العنيف في أراضي الـ48، فما اعتبره البعض وخصوصاً في إسرائيل «حرباً أهلية» بين اليهود والعرب هو بمثابة الشكل الوحيد الممكن للمواجهة هناك، على اعتبار أنهم في أراضي الـ48 لا يواجهون فقط مؤسّسات الدولة الاستيطانية الاستعمارية التي تحصر وجودهم في إطار الحقوق من الدرجة الثانية، بل أيضاً جيش «المواطنين» الصهاينة المستعدّين للانقضاض على نظرائهم العرب، بمجرّد المساس بهيبة الدولة الصهيونية أو حتى التشكيك في شرعيّتها.

«درع غزّة»
عدم حصول ذلك، أي اتساع رقعة المواجهة لتشمل كامل فلسطين التاريخية في المواجهات السابقة,، سواءً في الضفّة أو غزة كان بسبب الافتقار، ليس إلى معادِل للقوّة الإسرائيلية بل إلى مستوى من التسلّح يكون كفيلاً بتحقيق الحدّ الأدنى من الردع في مواجهة التفوّق الإسرائيلي النوعي. هذا لم يكن ممكناً سابقاً بفعل القيود على حركة المقاومة، ولأنّ تحقيق الردع في مواجهة قوّة استعمارية كبرى كإسرائيل هو فعل تراكمي مرتبط بالزمن ومنطق التاريخ، أي يُنجَز بالبناء على ما تمّ تحصيله سابقاً، حيث لا حربَ صواريخ ممكنة كما يحصل حالياً من دون المرور باستراتيجيات متنوّعة للقتال، بحسب ظرف كلّ معركة وطبيعتها. إذ تبدو المواجهة الصاروخية الحالية استكمالاً لحرب الأنفاق في عام 2014، والتي شنّها العدوّ برّياً، لأنّ المقاومة الفلسطينية لم تكن تملك حينها هذا الكمّ من الصواريخ التي تستطيع الوصول إلى أبعد نقطة في إسرائيل، بمعزل عن عدم التناسب بينها وبين الصواريخ الإسرائيلية المحمولة على طائرات ومقاتلات حربية. تردُّد إسرائيل في خوض الحرب البرّية بخلاف الجولة السابقة هو نتاج هذا التطوّر في قدرة المقاومة على الردع، إذ تبدو الدولة الصهيونية عاجزة، حتى عن إكمال «بنك الأهداف» الذي وضعته للأيام الأولى، والذي يجري التعويض عنه بتدمير الأبراج السكنية وقصف التجمّعات المدنية، بغرض ترويع أهالي القطاع، وحملهم على الضغط على المقاومة لإيقاف قصف تل أبيب وباقي المدن والمستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ. ويبدو أنّ «نظرية القبة الحديدية» قد تحقّقت عكسياً هنا,، فبدل أن تحمي هذه الدرع إسرائيل من صواريخ حماس وباقي الفصائل، والتي يمكن اعتبارها بدائية قياساً بصواريخ إسرائيل وقدرتها التدميرية الكبيرة، نرى أن صواريخ حماس ومن دون الحاجة إلى قبّة حتى هي التي حقّقت الردع رمزياً. ليس فقط عبر منع إسرائيل من تحقيق أهدافها من العملية الحالية بل أيضاً عبر الإخلال بالمعادلة التي كانت تحتكر بموجبها الدولة الصهيونية إنتاج القوّة الصاروخية واستخدامها. بهذا المعنى فإن المعادلة التي تقوم عليها المواجهة الحالية ليست تلّ أبيب في مقابل الشيخ جراح، بل الصاروخ المحمول على طائرة أو مقاتلة حربية في مواجهة نظيره الذي يُطلَق من منصّة أرضية ثابتة، صغيرة أو متوسطة.

* كاتب سوري



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا