لم يَظهر محمد بن سلمان، في مقابلته أوّل من أمس، مرتاحاً للعلاقات مع الولايات المتحدة. بدا وليّ العهد السعودي في موقف تبريري يعكس ارتيابه في نيات إدارة جو بايدن تجاهه، وخاصة أن الأخبار الواردة من واشنطن أخيراً لم تكن مطمْئنة له، حيث تتعاظم الضغوط عليه من البيت الأبيض والكونغرس على السواء، فيما تزداد قوّة معارضيه، وتحديداً من أبناء النظام المنشقّين. سلسلة إشارات تضمّنتها المقابلة، تعكس هذا الواقع:
- الأولى أنه أقرّ بوجود خلافات مع إدارة بايدن، وهذا يخلق إشكالية لدولة عَهِدت بأمن نظامها بالكامل إلى واشنطن وحلفائها منذ عشرات السنين، وفق اتفاقية «الحماية مقابل المصالح» التي عقدها الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود مع فرانكلين روزفلت في عام 1945.
- والثانية أنه حاول إظهار نوع من الندّية في حاجة كلٍّ من الطرفين إلى الآخر، حين قال إن الولايات المتحدة لولا النفط السعودي، ما كانت لتكون على ما هي عليه اليوم.
- والثالثة أنه سعى إلى الإيحاء بوجود خيارات بديلة لديه، في حال أرادت واشنطن التخلّي عنه، بإشارته إلى أن الصين وروسيا والهند أعلنت المملكة شريكاً استراتيجياً لها. وزاد على ذلك أن اقتصاد أميركا اليوم يساوي 20 في المئة من الاقتصاد العالمي، بعدما كان يساوي 50 في المئة في الخمسينيات، بمعنى أن أميركا لم تعد بالأهمية ذاتها التي كانت لها عندما بدأت العلاقات بينها وبين السعودية.
وتأتي هذه المواقف بعدما أظهرت إدارة بايدن اختلافاً عن سابقتها برئاسة دونالد ترامب، في ما يتعلّق بالتعامل مع ممارسات ابن سلمان بحقّ معارضيه. وهو اختلاف تَمثّل أبرز تجلّياته في رفع السرّية عن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي اتّهم وليّ العهد مباشرة بقتل خاشقجي، والذي نتج منه إعلان بايدن رفضه التعامل مباشرة مع ابن سلمان أو استقباله في البيت الأبيض. على أن ما يجدر التنبيه إليه، هنا، أنه عندما كانت واشنطن تُغطّي الانتهاكات السعودية لحقوق الإنسان، كانت الطبيعة المتحفّظة للنظام تتيح لها ذلك، لكن المشكلة اليوم أن ممارسات ابن سلمان وصلت إلى حدّ من الاتساع والعلانية لا تستطيع أميركا تغطيته، فضلاً عن أن أبرز المستهدفين بها هم من أبناء النظام نفسه، ومِمَّن أفنوا عمرهم في تقديم الخدمات للولايات المتحدة. وعليه، فالتحدّي الآن أمام واشنطن هو كيفية المحافظة على النظام، أو تطويره، بوجود ابن سلمان، بعدما عبث به الأخير باستحواذه على السلطة كاملة، حتى لا تخسر مصالحها الحيوية في المملكة. إذ إن ما يقوم به ولي العهد، ومن بينه اتّكاؤه في تثبيت حكمه على سياسة الرعب حصراً عبر قتل المعارضين وسجنهم أو سجن أفراد عائلاتهم إذا كانوا في الخارج، من شأنه زعزعة استقرار الدولة السعودية، بل واستقرار المنطقة برمّتها، وهو ما لا يلائم المصالح الأميركية.
المشكلة اليوم أن ممارسات ابن سلمان وصلت إلى حدّ من الاتساع والعلانية لا تستطيع أميركا تغطيته


زد على ما تقدّم، أن ثمّة تعديلات طرأت على وظيفة المملكة في السياسة الأميركية، مع تغيُّر ديناميّاتها في الشرق الأوسط والعالم الأوسع. وهي تعديلات كان يتعيّن على النظام السعودي أن يتكيّف معها، لا أن يقف في وجهها. على سبيل المثال، يمكن الحديث عن أمرين استراتيجيّين غيّرتهما السنون في السياسة الأميركية، الأوّل هو انتهاء الحرب الباردة التي كان للسعودية دور كبير فيها، وحلول الحروب الاقتصادية مكانها؛ والثاني اكتشاف النفط الصخري الذي جعل الولايات المتحدة مصدّراً صافياً للنفط. وفي الإطار الأخير، كثيراً ما تتضارب المصالح بين الطرفين؛ فالسعودية مدمنة على إغراق الأسواق لتلبية حاجتها الدائمة إلى «الكاش»، بينما لا يتناسب ذلك مع النفط الصخري الذي لا يكون مجزياً إلّا عند مستويات معيّنة من الأسعار. هذا ما دفع بالسيناتور تيد كروز إلى التهديد، قبل أشهر، بفرط عقد التحالف مع السعودية، خلال لقاء افتراضي لأعضاء في الكونغرس من الولايات النفطية، مع سفيرة الرياض في واشنطن ريما بنت بندر بن سلطان، نقلوا فيه إليها احتجاجهم على قيام السعودية بإغراق سوق النفط ضمن صراع مع روسيا على الحصص السوقية، ما أدّى إلى تدهور الأسعار.
وفي مؤشّر جديد إلى سوء العلاقة بين بايدن وابن سلمان، ذكر السفير الأميركي السابق في إسرائيل، مارتن إنديك، أن الإدارة الأميركية حصرت تعاملاتها مع ابن سلمان بوزير الدفاع، لويد جيمس أوستن، بما يعني أنها لا ترغب في التعامل معه كحاكم فعلي للمملكة. وحتى أوستن لم يتّصل به سوى مرّة واحدة في شباط/ فبراير الماضي. على أن أسوأ الأخبار الآتية من واشنطن لوليّ العهد كان إقرار قانون حماية المعارضين السعوديين من قِبَل مجلس النواب الأميركي الأسبوع الماضي، وإحالته إلى مجلس الشيوخ لاعتماده قريباً، ثمّ إرساله لكي يُوقّعه بايدن. ويستهدف القانون حماية المنشقّين عن النظام من بطش ابن سلمان، سواء كانوا مسجونين في السعودية أو فارّين إلى الخارج، علماً بأن هؤلاء لم تكن لديهم مشكلة مع النظام، وإنما مع ابن سلمان نفسه، وفي حالات معيّنة، مثل حالة سعد الجبري، هم من حلفاء الولايات المتحدة منذ عشرات السنين. هذا القانون، إذا ما أصبح نافذاً، فسيُمثّل سابقة في تاريخ العلاقات، لأنه يربط بيع السلاح للرياض بسلوكها تجاه المعارضين، بما يعني أنه ينقل جزءاً من الحماية الأميركية من النظام إلى معارضيه. ولأن السلاح هو العنصر الرئيسي في قوة نظام ابن سلمان، فإن حظر بيعه للمملكة، حتى جزئيّاً، يغلّ يديه. فإذا أوقفت واشنطن بيع السلاح للرياض، أو حدّت منه، ولحقت بها بريطانيا وفرنسا والدول الغربية الأخرى، فهذا يعني أن أكثر من 90 في المئة من الأسلحة السعودية ستتضاءل فاعليتها، لأن الأسلحة تحتاج إلى صيانة دائمة وإلى ذخائر، فضلاً عن أن برامج الصواريخ الذكية التي تحملها الطائرات السعودية تخضع لسيطرة الأميركيين لا السعوديين. على أن ابن سلمان لن يكون بمقدوره، بحسب ما يعتقد مراقبون، نقل مشتريات الأسلحة إلى أقطاب دولية أخرى. ذلك أن النظام مرتبط عضوياً، سياسياً وعسكرياً، بالغرب. وإذا كان نقل التحالفات، أو تنويعها على الأقلّ، ممكناً نظرياً، إلا أن الولايات المتحدة تملك من الخيارات في السعودية ما يجعلها قادرة على الحؤول دون تحقُّق هكذا سيناريو.
اللافت في الأخبار غير السارّة لابن سلمان الآتية من واشنطن، أنها تتناول، أيضاً، ملفّات داخلية أميركية، لا السياسة الخارجية وحدها، وهو ما يفسّر كون الضغط جاء أساساً من الكونغرس، الذي يهتمّ أعضاؤه بمطالب ناخبيهم المباشرة. وتتصاعد، في هذا الإطار، المطالبات لإدارة بايدن برفع السرّية عن تقرير أعدّه مكتب التحقيقات الفيدرالي في عام 2016، حول دور حكومة الرياض في هجمات 11 أيلول. وكتب خمسة من أعضاء مجلس النواب من الحزبَين، تقودهم النائبة الجمهورية نيكول ماليوتاكيس عن نيويورك، إلى وزير العدل ميريك غارلاند، ومدير «أف بي آي» كريستوفر راي، مطالبين بنشر التقرير، الذي يمكن أن يُفسّر حقيقة انتماء 15 شخصاً من خاطفي الطائرات الـ 19 إلى الجنسية السعودية. وسيؤدي فتح ملفّ 11 أيلول من جديد إلى تزخيم مطالبات موجودة في الولايات المتحدة بإعادة النظر في العلاقات مع السعودية، لا إعادة ضبط العلاقات فقط، كما تفعل إدارة بايدن حالياً، فضلاً عن المبالغ الضخمة التي سيتعيّن على الرياض دفعها كتعويضات. على أيّ حال، ومهما كان التوجُّه الذي تريد واشنطن اتّخاذه، فإنها ستحتاج إلى المعارضين السعوديين، وخاصة الذين يملكون معلومات مهمّة من أمثال سعد الجبري المقيم في كندا، والذي كان اليد اليمنى لمحمد بن نايف، ويملك أسرار السعودية كلّها في قضايا الإرهاب وأحداث أيلول. وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد خصّت الجبري ببيان يطالب الرياض بالإفراج عن ولدَيه المعتقلين في سجون المملكة، قائلة إنه «كان شريكاً مهمّاً في مكافحة الإرهاب، وساعد عمله في إنقاذ عدد لا يحصى من الأميركيين والسعوديين».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا