القاهرة | في أعقاب وفاة أكثر من ستّين مصرياً وإصابة نحو مئتين آخرين في حوادث دامية للقطارات، لأسباب كان للعنصر البشري الدور الأكبر فيها، لجأت الحكومة إلى اقتراح خصخصة السكك الحديدية بإسناد الخطوط المتشعّبة إلى شركات أجنبية تكون مسؤولة عن الإدارة، وهو مقترح سابق يعود إلى عام 2018، لكن الحكومة أوقفته بسبب الاعتراضات على تفاصيله، ولا سيما أن القطارات وسيلة النقل الرئيسيّة في البلد وتنقل يومياً نحو مليون ونصف مليون مواطن. فعلى رغم الطفرات الكبيرة في أسعار التذاكر التي قام عليها وزير النقل الحالي، الفريق كامل الوزير، وتخفيضه الاشتراكات مع زيادة الغرامات بما يسمح بزيادة العائد لهيئة السكّة، لا تزال القطارات حتى اليوم هي الوسيلة التي تتّسم بالسعر المناسب والسرعة والأمان مقارنة بالسيارات، فيما باتت مسألة السرعة والأمان محلّ إشكال في الأسابيع الأخيرة، لكن من دون مبرّرات منطقية. ففي غضون خمسة أسابيع، وقَعت ستّة حوادث قطارات في مناطق مختلفة، جزء منها مرتبط بإصلاحات تستغرق وقتاً أطول من اللازم، وهي مشكلة كُلّف الوزير بحلّها سريعاً. حتى عندما طَلب تقديم كبش فداء وإطاحة مسؤولي السكّة ــــ بدلاً منه ــــ لتهدئة الرأي العام، وخاصة أن البرلمان لم يسائله، أُسندت مناصب أخرى تضمن الامتيازات نفسها إلى الذين تمّ إقصاؤهم.تاريخياً، عُرفت وزارة النقل بمقبرة الوزراء، لأن معظم الذين تعاقبوا عليها خرجوا مستقيلين بسبب حوادث القطارات الجسيمة، لكن الوضع مختلف مع كامل الوزير، الذي وصل بعد استقالة سلفه هشام عرفات على خلفية حادث محطّة مصر، عندما تغافل سائق قطار وترك جرّار القطار يتحرّك بمفرده بسرعة كبيرة ليصطدم برصيف المحطّة، في واحد من أكثر الحوادث بشاعة خلال السنوات الأخيرة. جاء الوزير بتكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي، منتقلاً من رئاسة «الهيئة الهندسية» إلى منصب وزير النقل، أملاً بحلّ المشكلات في خلال مهلة ستّة أشهر مُنحت إليه قبل عامين. لكن الرجل الذي تسلّم خطّة موضوعة بالفعل كان يفترض أن تنتهي العام المقبل، لم ينجز أيّ شيء سوى ما بدأ به سلفه من زيادة الأسعار، وتولية العسكريين جميع المناصب القيادية في الوزارة. وحتى بعد الحوادث الأخيرة، طلب كامل أن يتوجّه إلى البرلمان، لكن الأخير لم يستدعه لسؤاله عمّا يحدث من إزهاق لأرواح المواطنين في وقت تكتفي فيه الدولة بسداد 100 ألف جنيه، وأحياناً معاش لأسرة كلّ متوفّى. أمّا خطّة تطوير السكك، فبدأ تنفيذها مع وصول السيسي إلى الحكم، لكن المخطّط الذي يفترض أن ينتهي بحلول 2022 وفق الإعلانات السابقة، جرى تمديده إلى 2024 بدلاً من اختصار مدّته لوقف النزف. والسبب، كما يوضح الوزير، مرتبط بارتفاع كلفة المشروعات من 141 مليار جنيه إلى 220 ملياراً، علماً بأن التطوير يُنفّذ بقروض من جهات عدّة، وآخرها قرض قيمته 145 مليون يورو وافق عليه «بنك التنمية الأفريقي».
نالت «الإخوان المسلمون» اتهاماتٌ رسميّة بالتسبّب في الحوادث!


في ما يتّصل بالأحداث الأخيرة، حمّل الوزير العاملين في هيئة السكّة المسؤولية، لكن هذه المرّة لم يشتكِ من ضعف كفاءتهم وعدم إدراكهم خطورة أيّ خطأ بسيط يمكن أن يرتكبوه، بل اتهمهم بالانتماء إلى جماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة، على رغم قدرته على فصلهم في حال إثبات هذا الاتهام بموجب القوانين الاستثنائية التي أقرّها السيسي منذ سنوات، لكنه اكتفى خلال حديثه أمام البرلمان بذكر اسم عامل لم يعجبه مسلسل «الاختيار 2» الذي تنتجه الدولة، ويُظهر الأحداث التي تلت عزل الرئيس الراحل، محمد مرسي، من وجهة نظر الأمن. في المقابل، لم يطرح وزير النقل أيّ حلول، على رغم كثرة التعليمات الشفهية التي تُبلَّغ للسائقين ولا تقَرّ في أوراق رسمية تجنّباً للمساءلة، ولا سيما في ما يتعلّق بتشغيل السائق الآلي للقطار، والذي يتسبّب في تأخير القطارات بالساعات نتيجة إجراءات السلامة الزائدة التي يتّبعها، ثم يُطلب من السائقين إيقافه حتى تصل القطارات في مواعيدها، وهو الإجراء الذي بات مرفوضاً من معظمهم أخيراً. ووفق المعلومات، عملت الهيئة، على مدار السنوات الخمس الماضية، على استيراد قطارات وعربات جديدة، إلى جانب تحديث أنظمة الإشارات والاتصالات، وإنشاء أبراج للمراقبة وتأمينها عبر أنظمة مراقبة بالكاميرات، لكن لم تُجرَ أيّ تدريبات تتناسب مع التقنيات الحديثة التي يستخدمها عاملون تتعاطى نسبة كبيرة منهم مواد مخدّرة، أو على الأقلّ يكونون منشغلين في أعمال أخرى، بالتزامن مع مواعيد وردياتهم الرسمية.
وعلى غرار جميع الهيئات التي تملكها الدولة، توقّفت التعيينات في «سكة الحديد» منذ سنوات باستثناءات قليلة، وهو ما عمّق حالة الجمود في الوظائف المتوفّرة على قلّتها، وتسبّبت بزيادة ساعات العمل لدى بعض الموظفين، مع أن عدد حوادث القطارات في مصر يُقدَّر سنوياً بنحو ألف حادث متنوّع بحسب تقديرات البنك الدولي، الذي طلبت القاهرة مساعدته في عملية التطوير. واللافت أن وزير النقل يعيد استحضار مقترح سابق يخلي مسؤولية الدولة عن الحوادث، وينقلها إلى القطاع الخاص عبر إسناد مهمّات إدارة السكّة إلى شركات عالمية تكون مسؤولة عن عملية التشغيل، في الوقت الذي تحتفظ فيه الوزارة بملكيّتها لجميع الأصول، مع أحقية الشركة في الاستعانة بمن تراهم مناسبين للعمل، الأمر الذي يسمح بمزيد من الوظائف التي لا تتحمّلها الدولة ولا تكون مسؤولة عن توفير تأمينات لأصحابها وعائلاتهم، على غرار الموظفين الحاليين. صحيح أن مسألة نقل الإدارة إلى شركات أجنبية ستستغرق بعض الوقت، لكن العمل يجري حالياً على الإسراع في هذه الخطوة وتشريعاتها، ولا سيما مع وجود بنود في القوانين الحالية تسمح بالشراكة، على رغم أن بعضها بحاجة إلى التعديل. كما ستجري دراسة الشكل الأمثل لإسناد هذه المهمّة إلى شركات عالمية، سواء بتقسيم الخطوط على شركات عدّة، أو تقسيم نوعية القطارات بين الشركات، أو حتى إسناد المهمّة بالكامل إلى شركة واحدة، فيما المنظور أن يتمّ تحقيق أرباح من المرفق الخدمي الذي تقول الحكومة إنها تخسر فيه مليارات سنوياً نتيجة مشكلات الإدارة.
ومن الخطط الحكومية القائمة إنشاء مسارات موازية للسكّة القائمة في محاولة لتخفيف الأحمال عليها، وفي الوقت نفسه تحقيق مزيد من الأرباح، ولا سيما أن المسارات الجديدة ستكون بأسعار تصل على الأقلّ إلى ضِعف الحالية، علماً بأن الحكومة حمّلت المواطنين فوارق تحديث عربات القطارات عبر تحريك الأسعار وإلغاء المزيد من القطارات المدعومة مقابل زيادة القطارات الأغلى، بل استبدال القطارات الأرخص سعراً بأخرى أغلى. على أيّ حال، ينصبّ تفكير الحكومة اليوم على نقطتين رئيسيّتين: الأولى إخلاء مسؤوليّتها عن الحوادث وتحميلها لغيرها، سواء الشركات الجديدة أو العمالة غير المؤهلة أو حتى «الإخوان»، والثانية العمل على تحقيق أكبر عائد من القطارات حتى لو كان على حساب المواطن الذي تتعرّض حياته للخطر في كلّ لحظة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا