بعدما أرسلت واشنطن إشارات متعدّدة إلى أن التوجُّه الأميركي يتأرجح بين عدم الانسحاب نهائياً من العراق، وبين سحب القوات القتالية والإبقاء على وجود دائم لقوات عسكرية تحت عنوان «مهمّة استشارية» لدعم قوات الأمن العراقية، جاء الهجوم بطائرة مسيّرة مفخّخة على القاعدة الأميركية في مطار أربيل أوّل من أمس، ليَطرح سؤالاً كبيراً عمّا إذا كانت المقاومة العراقية قد قرّرت، في ضوء التخبُّط السياسي الذي تشهده البلاد، تصعيد عملياتها، بهدف إعادة فرْض بند انسحاب القوات الأميركية ومَن يعمل تحت ظلّها، على أجندة أصحاب القرار في البلاد. وليست عملية الأربعاء الأولى من نوعها، لا في شمال العراق، ولا في أنحاء البلاد الأخرى، حيث سُجّل أكثر من عشرين هجوماً بالصواريخ والعبوات على قوافل عسكرية وقواعد تؤوي جنوداً أو دبلوماسيين أميركيين، منذ تسلُّم جو بايدن منصبه في الـ 20 من كانون الثاني/ يناير الماضي. لكن أهمّها كان هجوماً صاروخياً وقع في منتصف شباط/ فبراير الفائت على قواعد أميركية في محيط مطار أربيل، وأسفر عن مقتل متعاقد مع «التحالف» الذي تقوده واشنطن، وجرْح خمسة جنود بينهم أميركي. ومن بين الهجمات، أيضاً، ما يعيد إحياء علامات فارقة في مسيرة المقاومة العراقية التي دفعت القوات الأميركية إلى الانسحاب في عام 2011، مِن مِثل الهجوم بعبوة مزروعة على جانب الطريق ضدّ قافلة للإمدادات اللوجستية تابعة لـ»التحالف» في مدينة المثنى الجنوبية، نهاية الأسبوع الماضي.
وكان مستقبل القوات الأميركية في العراق قد طُرح على الطاولة، الأسبوع الفائت، خلال الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي الأميركي ــــ العراقي، لكن لم يتمّ تحديد أيّ وجهة سيتّخذها هذا الوجود، ولا تحديد أيّ مواعيد لتنفيذ انسحابات جزئية أو كاملة. وتقول مصادر ملمّة بالملفّ العراقي إن الولايات المتحدة لا تستطيع التخلي عن وجودها العسكري في العراق، نظراً إلى أهمية موقع هذا البلد الاستراتيجي بالنسبة إليها، وهي بالتالي غير مستعدّة للانسحاب منه من دون ضغط. وتعتبر المصادر أن الخروج العسكري من العراق، إذا حصل، سيُشكّل هزيمة كبيرة للأميركيين في غرب آسيا، وقد يُمهّد لخروجهم من الشرق الأوسط كله.
تأسيساً على ذلك، خلصت دراسة لمؤسّسة «راند» البحثية الأميركية عن العراق، صادرة في عام 2020، إلى توصية الإدارة الإميركية بالمفاضلة بين عدم الانسحاب أو تنفيذ انسحاب محدود، مع إبقاء مهمّة استشارية دائمة. ومن بين أهمّ الأسباب التي استندت إليها الدراسة، أن الانسحاب الكامل سيُعرّض للخطر «جهود احتواء إيران» في العراق والشرق الأوسط الأوسع، وسيؤدّي إلى نشوء تهديد للنفوذ والمصالح الاقتصادية الأميركية في العالم، وسيفتح الأبواب أمام دخول روسيا والصين، ويحدّ من قدرة الولايات المتحدة على التأثير في الأحداث السورية. في الأصل، تَنظر الإدارة الأميركية إلى الانسحاب الأول من العراق في عام 2011، على أنه كان خطأ، أو سابقاً لأوانه في أحسن الأحوال، باعتبار أن الولايات المتحدة اعتقدت أنها قضت على تنظيم «القاعدة» في البلاد، وأخفقت في تقدير صعود تنظيم «داعش»، وبالغت في تقدير قدرة الجيش والقوى الأمنية العراقية على مواجهة الإرهابيين، بحسب اعتراف الرئيس الأسبق، باراك أوباما، صاحب مشروع الانسحاب، علماً بأن خلَفه دونالد ترامب كان قد اتّهم وزيرة خارجية أوباما، هيلاري كلينتون، بخلق «داعش».
تنبئ الهجمات باتّساع الهوة بين الفصائل العراقية وبين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي


من جهة أخرى، تنبئ الهجمات باتّساع الهوة بين الفصائل العراقية، وبين رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي يَظهر بشكل متزايد على أنه ميّال إلى الولايات المتحدة. وذهب الكاظمي بعيداً في مسايرة الأميركيين، حين وصف الحوار الاستراتيجي بأنه «بوّابة لاستعادة الوضع الطبيعي للعراق». وتزامُناً مع انعقاد الجولة الثالثة من الحوار، سارت قافلة عربات يستقلّها مسلّحون مدججون، دانوا الاحتلال الأميركي، ووجّهوا انتقادات شديدة إلى الكاظمي. وعلى رغم أن الهجمات تحصل في أنحاء مختلفة من العراق، إلا أن استهداف محيط مطار أربيل يبدو ذا دلالة، كونه يُوجّه رسالة مزدوجة إلى الأميركيين، وإلى قادة المنطقة الكردية، بأنه لن يكون هناك ملاذ آمن لجنود الاحتلال. ولذلك، جاءت ردّة الفعل الكردية على هجوم المطار عنيفة على نحو خاص، إذ غرّد الزعيم الكردي، مسعود بارزاني، بالقول إن الهجمات الأخيرة «ما هي إلا محاولة سافرة لتقويض أمننا الداخلي وتعاوننا مع التحالف الدولي».
وكانت وزارة الداخلية في «إقليم كردستان» قد أعلنت أن «الهجوم على مطار أربيل استهدف مقرّاً للتحالف الدولي بمسيّرة مفخخة كانت تحمل مادة تي إن تي، ما تسبّب بأضرار في أحد مباني المطار». وأمر الكاظمي بفتْح تحقيق فوري في هجمات أربيل وغيرها، معتبراً أن «أمن العراق هو من مسؤولية الحكومة والقوات الأمنية العراقية، وأن «هذا النوع من الأعمال الإرهابية التي تجري في شهر رمضان هدفه زعزعة الأمن». وتزامُناً مع تلك التطوّرات، تحرّكت الخلايا الإرهابية مجدّداً، مستهدفةً بسيارة مفخّخة سوقاً مكتظّة للمعدّات المستعملة في مدينة الصدر في بغداد، ما أوقع أربعة قتلى و20 جريحاً، بحسب الشرطة العراقية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا