قد لا يستوعب الآخرون ماذا يعني مستشفى حيفا بالنسبة إلي وإلى أهلي. قد يعتقد من يقرأ ما أكتبه عنها أنني "لا أقدّر قيمة ما لدينا ولا أحترم النعمة"، بحسب قول جارتنا نهى. لكنني أرى ما لا تراه نهى، وهو قيمة المستشفى المعنوية. يمتلك مستشفى حيفا رمزية خاصة بالنسبة إلى الفلسطينيين القاطنين في مخيم برج البراجنة، ليس لأنه المشفى الوحيد في أكبر مخيمات العاصمة بيروت، ولا لأنه يعد قدرهم الوحيد في ظروف مادية واجتماعية صعبة ومحدودة؛ بل لما يختزنه من ذكريات متدرجة في مستوى الألم والحنين.
شهد مستشفى حيفا على علاج العديد من جرحى المقاومة الفلسطينية إبان حرب المخيمات، فمعظم الأهالي يتذكرون البطل ع.خ. الذي أصيب بسبع طلقات نارية خلال دفاعه عن المخيم وحماية أحد مداخله الرئيسية. القديس –بنظر من عرفه- سال دمه في زواريب المخيم واتكأ على جدرانه طول الطريق الى المستشفى، حيث استخرج الطبيب الرصاصات من جسده دون مخدر. وهو أيضاً المكان الذي اختاره الكاتب اللبناني إلياس خوري ليحدثنا عن "يونس" بطل روايته "باب الشمس" و أحد قادة المقاومة الفلسطينية الذي احتل غرفة من غرفه، بعدما أصيب بجلطة دماغية و أمضى آخر أيامه في غيبوبة على سرير ذي فرشة ممتلئة بالماء يحدثه الممرض "خليل" الذي رافقه حتى آخر نفس.
وللأسف، مستشفى حيفا هو عينه المستشفى الذي قصده احد شباب المخيم البالغ من العمر تسعة عشر عاماً يشكو من "كيس شعر" في اسفل ظهره. فأجرى له الدكتور د.م. عملية جراحية بسيطة، استأصل فيها كيس الشعر و أخبر الشاب ان الجرح سيلتئم بمدة أقصاها شهران. مر الشهر الرابع و الجرح ما زال مفتوحاَ. ذهب لمراجعة الطبيب في المستشفى فلم يجده، و بالصدفة أخذته الممرضة ليكشف عليه طبيب آخر ليفاجأ الطبيب الثاني بأن الجرح مفتوح وبأن كيس الشعر لا يزال في مكانه! صرخ الطبيب منادياً على الممرضة: "مين سوّاله (أجرى له) العملية؟" أجابته الممرضة باسم الدكتور، فغضب وأنّبها قائلاً: " ليش ما حولتي المريض لعندي؟ هاي مش اول مرة بيعمل هيك مصيبة، شو ما بتعرفيه؟". صمتت الممرضة ولم تحرك ساكناً و كأنها لا تريد التفوه بشيء أمام المريض و والدته. "خير" قال الدكتور و طلب منه أن يقوم بالخطوات اللازمة حتى يستطيع اجراء العملية مرة أخرى.
لا يعترض أهالي المخيم على المستشفى كثيراً و لا على الأطباء، فهم يمشون على مبدأ ان "الكحل احسن من العمى". يتذمر أبي من كلامي و مقالاتي التي تناولت فيها مشاكل مستشفى حيفا و عيادة الأونروا قائلا:" يعني بدك نقعد بلا دكتور أحسن؟ يابا الحمدلله بالمقلّية في مستشفى للمخيم اي شي بصير علينا، هياها قريبة و بتحويل من الأونروا منوخد خصم نص حق العملية. لولا هالمستشفى وين منروح اذا مرضنا؟". لا أعرف بماذا أجيبه، ففي كل مرة نخوض هذا النقاش يحزن أبي و يخاصمني طيلة اليوم، لكنه لا يقتنع بأنه علينا ان نسمي الأشياء بأسمائها و ان نحاسب المخطئين بحقنا.
أعرف أن أبي لن يغير وجهة نظره مهما حصل، و لا أنا بصدد تغيير ما أؤمن به! حين أسمع أختي تقول لأمي:" ليكي أمي، برحمة جدي، اذا شفتيني عم بموت.. اذا ما قدرتي تحكميني بمستشفى محترم، اتركيني أموت بسلام، بس أوعك ها، أوعك تفكري توخديني على مستشفى حيفا"، أشعر بأننا نستحق أفضل من هذا بكثير. يجب الا نبقى صامتين.