دمشق | عشرة أعوام مرّت من أعمار السوريين، أظلمَت مستقبل بعضهم، فيما صعّدت آخرين إلى حيث لم يَتوقّع أحد. إذ ازدهرت مهن وأعمال على حساب أخرى، واحتُكرت أسواق بعض المهن من قِبَل أسماء مستجدّة، على إثر غياب أصحابها القدامى وتشتُّتهم في الأصقاع. وجد البعض في التغييرات التي بدأت في آذار 2011 فرصاً للاستغلال، في حين رأى آخرون، ولا يزالون يرون، فيها صدمة لم تنتهِ بعد. إلا أنه في ميزان الربح والخسارة، يبدو جميع السوريين خاسرين، بِمَن فيهم الرابحون الفعليون مِمَّن أجادوا تسلُّق معاناة الناس. وذلك في جميع المجالات، بما فيها الثقافية والفنية التي فرغت من معظم نخبها، ما أثّر على هوية البلاد، وأعلى أصوات الشعارات والمزايدات والتخوين على المطالبات بالسوِيّة اللائقة للمنتَج الإبداعي وقيمته. ويبقى أبرز الخاسرين مَن خسر روحاً أو بيتاً أو جنى العمر، أو حتى وطنه، بينما أضحى تعويضه في البلدان البديلة مثار جدل آخر. وعلى أيّ حال، لا يختلف أحد على أن السوريين جميعهم يعيشون، اليوم، حيوات بديلة. مَن بَرَع في إدارة حياته الجديدة صُنّف مِن بين الناجين، عبر خلاص فردي لا يكاد يلحظه هو نفسه، في حين فشل كثيرون في التأقلم مع مسار الحياة البديلة، وأضحت عيادات الطب النفسي تغصّ بزوّارها الدائمين. يهرب الجميع من سؤال: أين كُنّا لولا هذا التاريخ؟ سؤال يشرّع التفكير في مدى أحقية إلقاء اللوم في الفشل والخيبات على مجرّد توقيت زمني لم تأتِ نتائجه التراجيدية من مجرّد أرقام متجاورة على شكل: 15- 3- 2011.
«مواطِنة درجة ثانية»
في شقّتها الألمانية الصغيرة، تستعدّ فيكتوريا شابلي لامتحاناتها في كلّية الهندسة. تفوُّق وتميُّز أظهرتهما الصبيّة العشرينية الجميلة، سمحا لها بالتعويض قليلاً عمّا شهدته من أهوال في مسقط رأسها في الجزيرة السورية، أسوةً بالكثير من السريان والكلدان، وحتى العرب، الذين هربوا من المعارك والمجازر، وبشكل تدريجي منذ عام 2011. نظرياً، لم تربح فيكتوريا كثيراً، هي التي خرجت من بلادها للدراسة في ألمانيا وبدأت من تحت الصفر، بحسب قولها، إلا أنها حظيت بـ"رعاية صحّية ممتازة لوالديها اللذين أتعبهما المرض". تقول: "لو بقينا في سوريا لتَبَهدلنا بفعل مصاريف ذلك". فقدت الفتاة استقرارها وبعض خطط مستقبلها، إضافة إلى أشخاص تحبّهم، والأهمّ "بيتي وحارتي وطقوسي التي كنت أحبّها. لعلّ البيت الذي خسرناه يمكن تعويضه. ما لا يمكن تعويضه هو جزء عميق مني ومن هويّتي". خسرت فيكتوريا انتماءها الذي ضاع بين البلدين، وهو، بنظرها، ما لا يمكن أن تُستبدَل به أوراق الإقامة الدائمة أو اللغة البديلة. تُعلّق: "بتضلّي مواطنة درجة تانية". وتضيف: "حتى لو رجعت ع سوريا. رح حسّ حالي غريبة. أكيد كلّ شي تغيّر".
في مقابل صعود مَن باتوا يُعرفون بـ«تجّار الحرب»، نزلت أسماء كان لها تأثيرها على جيوب السوريين وحياتهم


لا تختلف كثيراً هواجس مَن بقوا في البلاد، مِمّن هم في المرحلة العمرية نفسها. الممرّضة الشابة، فاطمة بدران، يستوقفها الرقم "10"، فتعلّق بقليل من الدهشة: "بصراحة الرقم كبير". تَغيّرت حياة الفتاة وعائلتها كلّياً، إذ هجرت بيت ذكريات طفولتها في حي جوبر الدمشقي مطلع سنوات الحرب، على خلفية خسارة ابن عمّها شهيداً على باب المنزل ذاته، برصاصة قنّاص، لتتواصل خسائر العائلة بأبناء عمومة آخرين استشهدوا أو فُقدوا منذ سنوات صارت بعيدة بالنسبة إليها. ليست الأرواح وحدها ما لا يعوّض، بالنسبة إلى الصبية العشرينية، بل مشاعر فقدتها كالأمان والحنان والطمأنينة. أكثر ما يعنيها هجْر البيت الأول وتبديل 4 بيوت من بعده. تقول بحسرة: "كتير بشع تكون بلا بيت ومأوى. مو أي أربع حيطان وسقف بينقال عنهم بيت". خسرت فاطمة رفاقاً بسبب موقف سياسي، من غير أن تخفي ندماً، لعلّ مَن خسرتهم يشعرون به ذاته. وإن ربحت قوتها وصلابتها في مواجهة صعوبات الحرب، لا تبدو فاطمة ممنونة كثيراً، إذ كان يمكنها أن تُطوّر نفسها بشكل أكبر لولا الحرب، بحسب تعبيرها. الكثير من الأمور كان يجب تغييرها وإصلاحها في البلاد، ولكن ليس "هكذا"، على حدّ قولها. "هيك رجعنا نحنا والبلد مية سنة لورا. ما في بيت سوري ما تضرّر. بتمنّى لو غيّرنا بلدنا للأحسن مو للأسوأ"، تختم فاطمة.

«ما لا يعوَّض»
في مقابل صعود مَن باتوا يُعرفون بـ"تجّار الحرب"، الذين أدّوا أدواراً متعدّدة خلال الأزمة والحصار حتى أضحوا أهمّ رموز المرحلة اقتصادياً، نزلت أسماء كان لها وزنها وتأثيرها على جيوب السوريين وحياتهم. كذلك، فرّخ جيش من الإعلاميين الافتراضيين الذين ملأوا صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، التي صارت مسرح "بطولات" التغطيات الميدانية، وهو ما أفضى إلى تزايُد الصراخ الدفاعي عن البلاد، وأضفى على المناخ الإعلامي ألواناً مذهلة من فنون "الحرب النفسية والإعلامية"، تسودها السقطات المهنية والأخطاء الإملائية والنحوية، من غير أن يرفّ جفن لأصحابها.
تعزو الزميلة بيسان أبو حامد هذه الأجواء إلى كون سوريا ظلّت على مدى سنوات الحرب أرض الحدث، وهذا أدّى إلى تسابُق وسائل الإعلام العالمية للحصول على أيّ خبر أو صورة، ما شرّع الفرص ونوّعها. وتلفت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت منذ عام 2011 في تنوُّع الأدوات لعمل صحافي أكثر إبداعاً وانتشاراً، بما يسمح بالتحرُّر من الأطر التقليدية، مضيفة إن "الزمن كفيل بغربلة الصحافيين من المتسلّقين". الإعلامية الثلاثينية المقيمة في بيروت، ومع إيمانها بالصحافة كأداة تشذيب لوعي الشعوب، وتعويلها على الصحافة الميدانية، لم تتخيّل يوماً أن تكون سوريا هي الميدان، وأن يكون الفرز والاستقطاب قاسيَين بهذا الشكل. تعلّق: "لا يهمّ إن كان جسدك مرتعشاً. عليك ضبط عدسة الكاميرا، حتى وإن زوّغ الدمع بصرك. لم يكن سهلاً فصل المهنة عن المشاعر. ولكنني أعتبر نفسي محظوظة بفرصة معايشة مرحلة بهذه التحوُّلات الجذرية، ما ساهم في صقل خبرتي ومهارتي الصحافية". ولو أخذت الأمور مساراً بعيداً عن الحرب وتأثيراتها، لكانت أبو حامد اليوم سيدة تعمل على تربية طفلين وكلب، بحسب تعبيرها، وسط لفيف من أصدقائها الغائبين. وتختم: "الحرب تُوسّع الآفاق، وإن كانت تفتحها على المآسي".
أمّا في حمص التي شهدت أقسى فصول الصراع، فتتجلّى أسوأ التأثيرات النفسية والاجتماعية. الطبيب طارق غدير حمل عائلته الصغيرة ومضى مغترباً للعمل في الخارج، بعد انتهاء مرحلة العنف في مدينته التي كان قد نزح عنها مطلع سنوات الحرب إلى طرطوس. لا ينسى كيف سقطت صور عرسه وصحف تقييمه الدراسية وبعض أغراضه الشخصية أثناء نقلها من بيته القديم تحت القنص، من غير أن تستوقف أحداً للتفكير في التقاطها. إلا أن وفاة والده نبّهته إلى أن عمراً هُدر خلال الحرب لم يتمكّن من أن يمضيه معه. يعلّق بالقول: "الشي الوحيد اللي لازم يتعوّض هو سوريا. والشي الوحيد اللي ما رح يتعوّض هو سوريا أيضاً". عبارة يخشاها الكثير من السوريين ويصدّقونها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا