رغم الخلفية العسكرية لجميع المتعاقبين على حكم مصر قبل «ثورة 25 يناير»، فإن دور الجيش لم يكن بارزاً كما حدث بعدها، حتى قبل عزل الرئيس الإسلامي محمد مرسي بتحريض شعبي وعرقلة رسمية، في حين أن الجيش اليوم هو المتحكّم في الدولة واقتصادها. وعندما سعى الرئيس الراحل المخلوع محمد حسني مبارك إلى توريث نجله السلطة على مدار سنوات، كانت العقبة الرئيسية أمامه أن نجله مدني لا عسكري، والشرط ضمنياً لنادي الرؤساء أن يكونوا ذوي خلفية عسكرية، ما طرح أسماء أخرى أبرزها رئيس الأركان آنذاك، الفريق سامي عنان، المقرّب من الأميركيين والرافض لمشروع التوريث.الجيش، الذي تولى قيادة المرحلة الانتقالية الأولى بعد الثورة عقب الإخفاق في خطوة تكليف عمر سليمان مهمات الحكم حتى ليوم واحد لتهدئة الشارع، بات الحاكم الفعلي خاصة بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الكرسي ليحول الجيش من مؤسسة عسكرية إلى دولة داخل الدولة. وإن كان جزء مما كان يفعله الجيش مرّ على استحياء في حكم مبارك، لكن النفوذ والتغلغل لم يحدثا إلا في عهد السيسي. القصة أقدم مما يرى كثيرون، فقد بدأت القوات المسلحة تحركاتها في الحياة السياسية مع «يناير» وتحديداً عبر مدير «المخابرات الحربية» آنذاك، السيسي نفسه الذي حرص على استقبال عدد من شباب الثورة في مكتبه بوزارة الدفاع قبل أن يشارك وقادة آخرين في اجتماعات مع القوى السياسية لم تنتهِ بتغليب الأقوى في الشارع فقط، بل بما يخدم خططاً وإستراتيجيات للجيش بعيدة المدى، فيها سيناريو: تصعيد جماعة «الإخوان المسلمين» إلى المناصب ثم إقصاؤهم، وهو ما عبّر عنه عضو «المجلس العسكري» الأسبق محمد العصار حين قال إن الشعب الذي يطالب بإبعاد الجيش هو نفسه من سيطلبه للحكم مرة أخرى، وقد كان.
رغم اكتمال صورة مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الرئاسية في عام 2012 بتسليم السلطة لمرسي ظلّ الجيش حاضراً وشريكاً في الحياة السياسية بل رقيباً على الرئيس وحكومته بصورة جعلته دولة داخل الدولة، لتنتهي بتحريض العسكر على خروج الناس في 30 حزيران/يونيو 2013 ليستثمروها مع المعارضة من أجل إقصاء «الإخوان» عن السلطة، ثم إقصاء المعارضة نفسها تدريجياً لإفساح الطريق أمام السيسي كي يصل إلى الرئاسة ويبقى محمياً من أي محاكمات محتملة عبر تقليده رتبة المشير بعد ترقيته من فريق أول، وهو بذلك آخر عسكري يحصل على هذه الرتبة الرفيعة والاستثنائية. لكن لا يمكن إغفال أن الجيش استفاد من عداء «الإخوان» لمعارضيها فوحّدهم ضد الجماعة قبل أن يحوّل الدفة على المعارضة ويقسمها ويشتّتها ويبدأ القضاء عليها تياراً بعد آخر، تارة بالإقصاء والاستبعاد كما حدث مع محمد البرادعي، وتارة بالإغراء بالمناصب كما مع القضاة خاصة أعضاء «المحكمة الدستورية»، وليس أخيراً بالتهديد وفتح الملفات كما حزب «الوفد» وقياداته، وأخيراً بالسجن كما مع المرشح الرئاسي الأسبق عبد المنعم أبو الفتوح.
العسكر هم مديرو الدولة اليوم بصلاحيات كاملة ودون رقابة عسكرية أو مدنية


هكذا، نجح العسكر في إدارة الأزمة السياسية باقتدار واستعادوا القوة والنفوذ اللذين كانا إبّان حكم جمال عبد الناصر بل مع مزيد من السلطة التي يمكنها عرقلة طموح أي شخص أو جهة تحاول أن تنافسه في المستقبل القريب أو حتى البعيد، مصحوبة بطموح السيسي الشخصي إلى أن يكون باني «مصر الحديثة» على غرار محمد علي، ومدمراً إرث من سبقوه ولا سيما مبارك الذي جاء به قبل «ثورة يناير» بشهور ليكون مديراً للمخابرات الحربية. في سبيل ذلك، عمل «الجنرال» على سنّ قوانين تقوّي الجيش بينها قوانين أُقرت فوراً ومنحت العسكريين صلاحيات واسعة، ثم قوانين مُررت لاحقاً وجعلت الحاكم العسكري في المحافظات يملك صلاحيات توازي المحافظ وربما تفوقه... إلى أن صارت «الهيئة الهندسية للقوات المسلحة» بصلاحيات تعادل صلاحيات وزارات عدة. أما الإدارة المالية للجيش، فباتت موازنتها مفتوحة ومشاريعها التي تشارك فيها ربما تعادل مشاريع «المالية» التي بات دورها هامشياً باستثناء القروض والسندات وغيرها من الاستدانات الخارجية التي تجري بضمان الدولة.
اليوم الجيش هو مدير الدولة، مدير يملك مختلف الصلاحيات ودون رقابة لا عسكرية ولا مدنية، ما جعل حتى المخالفات الفجّة يجري فيها التحقيق داخلياً دون أي معلومات عن طبيعة ما جرى من محاسبات، بل تحولت مختلف المواقع في البلد إلى مواقع عسكرية يمنع الاقتراب منها والتصوير، وإلا فالمحاكمات العسكرية جاهزة ودون تغطية إعلامية ولا ضمانات لمحاسبة المخطئ الحقيقي. اليوم أيضاً صارت غالبية المسؤولين في الوزارات والجهات الحكومية عسكريين سابقين مع إقصاء لذوي الخبرة والكفاءة مقابل تصعيد لمنفذي الأوامر التي قد تخالف المنطق أحياناً بسبب رغبات الرئيس الشخصية. حتى القادة العسكريون الذين باتوا حاكمين فعليين لا يقولون سوى: «تمام يا أفندم». ومن يخالف، فعليه الرحيل بصمت على غرار ما حدث مع شخصيات كثيرة أبرزها نائب رئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس السابق، أحمد درويش.