لكن الاعترافات الصادمة لأويحيى أظهرت، من جانب آخر، يأس الوزير الأول السابق الذي كان مطروحاً اسمه لرئاسة البلاد في وقت ما، من إمكان نجاته من مصير السجن الطويل، إذ قال بوضوح في المحاكمة إنه لم يعد هناك ما يخجل منه. وذكر للقاضية أنه لم يكن وحده في هذه العملية، لكنها رفضت أن تستمع منه إلى باقي الأسماء، مثلما طلب ذلك بعض المحامين، لكون القضية تقع خارج ملفّ استيراد السيارات الذي تجري حوله المحاكمة. وفسّر البعض تصريحات أويحيى الجديدة على أنها جرس إنذار لِمَن هم في السلطة حالياً، بأنه مستعدّ لأن يكشف كلّ ما في جعبته من أسرار، إن لم يتمّ التخفيف عنه في القضايا المتّهم بها، لكن هذه الاستراتيجية بدا أنها ورَّطت أويحيى أكثر ممّا أفادته، لِمَا أحدثته من رجّة في الرأي العام، ستجعل خروجه من السجن غير وارد على الإطلاق، إن كان يفكّر في أن تتمّ تبرئته مثل ما حدث مع قائدَي المخابرات محمد مدين المعروف بـ"جنرال توفيق" وعثمان طرطاق، ووزير الدفاع السابق خالد نزار، الذين تسير قضيتهم في اتّجاه آخر يتعلّق بالتآمر على سلطة الدولة والجيش وليس الفساد.
اعترف أويحيى بتلقّيه 60 سبيكة من الذهب من أمراء خليجيين
ومِثل أويحيى، يقبع نحو 30 وزيراً ووالياً في فترة الرئيس السابق في السجن، إلى جانب العديد من رجال الأعمال، بتهم استغلال النفوذ والرشوة، وتكوين ثروات بطرق غير مشروعة، وغير ذلك. وتختلف النظرة إلى هذه المحاكمات عند الجزائريين؛ فهناك مَن يراها محاولة من النظام السياسي لتبييض صورته عبر التضحية ببعض كبار المسؤولين، فيما يعتقد آخرون أن ثمة فعلاً إرادة لتطليق الممارسات السابقة التي كادت تؤدي إلى انهيار الدولة، بحسب أصحاب هذا الرأي. لكن الكلّ يبدو مجمعاً على أن ملفات الفساد، حتى وإن تمّ توظيفها سياسياً، هي حقيقة ثابتة في فترة الرئيس السابق، وهو ما يَظهر في غياب أيّ تعاطف مع الوزراء المتابَعين حالياً، بل إن هناك مَن يدفع باتجاه ضرورة محاكمة عبد العزيز بوتفليقة، لكونه الراعي الأول لهذه المنظومة، مثلما صرّح بذلك الوزير الأول الآخر، عبد المالك سلال، الذي يحاكَم هو وابنه أيضاً.
لكن في الواقع، بدأ الجزائريون يتعاملون بفتور مع هذه القضايا التي أصبحت روتينية، إلّا في حالات قليلة جدّاً تخرج فيها التصريحات عن المألوف، مثلما حدث في المحاكمة الأخيرة. وأصبح الانشغال أكبر بقضايا الوضع الراهن، لكون الرئيس السابق أصبح من الماضي. وهنا أيضاً تختلف النظرة؛ فهناك مَن يرفض الانخراط تماماً في مسار الإصلاحات الذي أطلقه الرئيس الحالي، عبد المجيد تبون، والذي أسفر عن دستور جديد وقانون انتخابات هو قيد الإعداد، لأن الأمر يتعلّق فقط - بحسبهم - باستكمال عملية تجديد الواجهة من دون الذهاب إلى التغيير الحقيقي الذي طالب به الحراك الشعبي. وفي المقابل، ثمة مَن بدأ مِن الآن بإعداد نفسه للانتخابات التشريعية والمحلية التي ستجري في غضون العام الحالي لتجديد البرلمان ومختلف المجالس الشعبية، وهو موعد تُقدّمه السلطة على أنه بداية التغيير الحقيقي.
وازدادت حماسة هذه الفئة المؤمنة بمسار السلطة الحالي مع تماثل الرئيس للشفاء من إصابته بفيروس كورونا، وذلك بعد غياب دام لشهرين في أحد المستشفيات الألمانية بين شهرَي تشرين الأول/ أكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر 2020، ما خلّف حالة كبيرة من الغموض والقلق في البلاد. ومع أن تبون أعلن، أول من أمس، عودته إلى ألمانيا لمواصلة العلاج من مضاعفات المرض على قدميه، وقال إن من المحتمل أن يُجري عملية جراحية بسيطة، إلا أن هذا الحدث لم يُِثر جدلاً كبيراً، لكون الرئيس بعد ظهوره وحديثه لا يبدو في وضع سيّئ يُعطّله عن مواصلة مهامّه في رئاسة البلاد. والمتوقّع، بعد عودته، أن يجري تبون تعديلاً حكومياً، خصوصاً أنه كان أبدى علانية عدم رضاه عن أداء بعض الوزراء.