تونس | لا يزال الوضع في مدينة بن قردان من محافظة مدنين في جنوب شرق تونس على الحدود مع ليبيا مشتعلاً على الرغم من وعود الرئيس التونسي المنصف المرزوقي بتكليف لجنة وزارية لزيارة المدينة والوقوف على مشاكلها. وفي الإطار، يصل غداً وكيل وزارة الداخلية الليبية المكلف بتسيير أعمال الوزارة صالح مازق إلى تونس لبحث الوضع على معبر راس جدير في بن قردان. فبعد دقائق من إعلان الرئاسة التونسية استقبال وفد من المدينة، أصدر المعتصمون في المدينة بياناً قالوا فيه إنهم لا يعترفون بالوفد الذي التقاه المرزوقي، معتبرين أنه لا يمثلهم، وأكدوا مواصلتهم الاعتصام إلى حين زيارة وفد حكومي لهم. وجاءت هذه الخطوة من أهالي بن قردان الذين يطالبون بالتنمية وخلق فرص عمل حتى لا تبقى حياتهم تحت رحمة معبر راس جدير الحدودي مع ليبيا الذي تسيطر عليه ميليشيات من الجانب الليبي وتغلقه متى تشاء، بعد تفجر الوضع الأمني بشكل غير مسبوق في المدينة.
وبعد حوالى أسبوع من انفجار الأزمة، ما زال الوضع على ما هو عليه في انتظار موافقة الجانب الليبي على فتح المعبر. وفي انتظار ذلك، يعتصم مئات المواطنين وسط المدينة التي تعيش حالة شلل تقريباً في مرافقها العامة.

وهذه ليست المرة الاولى التي يتم فيها إغلاق المعبر الذي يدخل منه آلاف التونسيين والليبيين كل يوم، لكنها المرة الأولى التي يصل فيها الوضع إلى حالة من غياب تام للأمن تقريباً، إذ اضطرت قوات الأمن التونسية إلى الانسحاب حسب ما أفاد به محافظ مدنين حتى لا يتعكر الأمن أكثر.
تعكر الوضع الأمني في مدينة بن قردان ليس جديداً. فمنذ إعلان العصيان المدني في صيف ٢٠١٠ عقب إغلاق المعبر، تتصدر المنطقة واجهة الأحداث السياسية والأمنية في البلاد، إذ إن الوضع لم يهدأ في المنطقة بسبب حساسية الوضع الاجتماعي والاقتصادي فيها. فأغلب أهالي المنطقة والمناطق المجاورة يعيشون من التبادل التجاري مع ليبيا، إذ يعتبر معبر راس جدير الشريان الحيوي للاقتصاد، والذي تشير التقديرات إلى أن حوالى ١٠٠ ألف مواطن يعيشون منه من خلال التبادل التجاري القانوني وغير القانوني، وبالتالي فإن إغلاق هذا المعبر لأي سبب وتحت أي ذريعة سيتسبب في توقف أعمال سكان المنطقة، ما يعني أن فئة كبيرة منهم ستصبح عاطلة من العمل. وقد كان نظام زين العابدين بن علي، بالتعاون مع نظام معمر القذافي، يغضّ الطرف عن التهريب وعن بعض التجاوزات والتهرب الجمركي مقابل مساهمة المهربين في حماية الحدود ومراقبتها، وخاصة في مستوى السلاح والمخدرات، إذ كانت المجموعات التي تمتهن التهريب تمتنع عن التورط في تهريب سلع محظورة وخاصة السلاح والمخدرات، إلى حدّ تحول فيه التهريب إلى جزء من المنظومة الاقتصادية للبلدين.
وعد الرئيس
التونسي بتكليف لجنة وزارية لزيارة المدينة
وبعد سقوط النظامين، وفي ظل الانهيار شبه الكامل للأمن في ليبيا، أصبح معبر راس جدير يمثل صداعاً حقيقياً للسلطة التونسية وحتى للجزائر، إذ أصبح المعبر في الجانب الليبي تقريباً خارج سيطرة السلطة الرسمية في طرابلس. كذلك تم ضبط السلاح أكثر من مرة وإجهاض عمليات تهريب للأسلحة، لذلك اتخذت السلطات التونسية إجراءات استثنائية من أجل ضبط الحدود من بوابة بن قردان.
انفجار الوضع جاء في ظاهره على خلفية إغلاق معبر راس الجدير من الجانب الليبي. لكن الاتحاد العام التونسي للشغل، أحد رعاة الحوار الوطني، الذي لعب دوراً محورياً في الحراك الذي عرفته المدينة في ٢٠١٠، رأى أن هذا الحراك تقف وراءه جهات سياسية غير راضية عن المسار السياسي الجديد في البلاد، والمقصود هما حركة النهضة وحزب المؤتمر. وهو ما يفسر، حسب قيادات المنظمة النقابية الأكثر تمثيلية في البلاد، إقدام مجموعة من الشبان على إحراق مقر الاتحاد في المدينة.
وذهبت نقابات الأمن إلى أبعد من ذلك، إذ رأى نقابيون أمنيون في تصريحات للإعلام أن الوضع خرج عن السيطرة في بن قردان، وأن خلفية هذه الاحتجاجات هي تمرير أسلحة من ليبيا وبعض «الجهاديين» التونسيين العائدين من سوريا، وذلك بإشعال بوابة راس الجدير حتى تنشغل قوات الأمن والجيش بهذا الحراك الذي يبدو في ظاهره تلقائياً حتى يتمكن «الجهاديون» من دخول البلاد استعداداً لتنفيذ مخطط إرهابي.
هذه الرؤية تتبنّاها بعض الأحزاب والجمعيات والمنظمات التي ترى في الحراك الاجتماعي الذي عرفته بعض الجهات في الجنوب التونسي، مثل تطاوين ومدنين وقابس وقبلي، محاولات من حركة النهضة وحليفها حزب المؤتمر لإرباك عمل حكومة مهدي جمعة استعداداً للانتخابات القادمة ولخلط الأوراق.
ورغم تجنّد جمعيات ومنظمات وأحزاب تونسية وليبية لإيجاد حل لهذه الأزمة المتجددة، فإن كل المؤشرات تؤكد أن راس جدير سيبقى ملفاً بالغ الحساسية يؤرق البلدين أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، خاصة مع تواصل انهيار الوضع الأمني في ليبيا.
فالوضع في الجنوب الشرقي التونسي، ومنذ سنوات، وخاصة منذ تولي بن علي الحكم في تشرين الثاني ١٩٨٧، مرتبط ارتباطاً عضوياً بمعبر راس جدير، وقد اضطر بن علي أكثر من مرة إلى التدخل لدى معمر القذافي لفتح المعبر عندما كان يتخذ قراراً بغلقه في حالات الغضب حتى يتجنّب غضب التونسيين الذين يعيشون من هذا المعبر في حالة أقرب إلى السريالية. فالجميع حتى بعد رحيل بن علي والقذافي ينتظرون غودو (بطل مسرحية «في انتظار غودو» للكاتب العبثي صامويل بيكيت) في مشهد سريالي مؤلم!