الجزائر | "يا بورقعة ارتاح ارتاح.. سنواصل الكفاح"... هكذا، اختار الجزائريون وداع الراحل لخضر بورقعة إلى مثواه الأخير، في جنازة مهيبة شهدتها العاصمة الجزائرية أول من أمس. وكأن الأقدار اختارت بعناية موعد رحيله في تشرين الثاني/ نوفمبر، شهر الثورة الجزائرية ضدّ المستعمر الفرنسي سنة 1954، والتي كان هو أحد أبطالها. المجاهد الكبير قاوم كلّ الظروف والمآسي التي مرّت بحياته، إلا أن جسده المنهك، بعد 87 سنة من العنفوان، لم يستطع مقاومة آثار فيروس كورونا الذي داهمه في الأسبوعين الأخيرين، وكان السبب في إنهاء مسيرته المليئة بالعطاء. أظهر الجزائريون، وهم ينعون بورقعة، صدمتهم الشديدة، لأن الرجل لم يكن من رجالات التحرّر الوطني من المستعمِر الفرنسي فحسب، بل واصل في سنوات الاستقلال نضاله ضدّ حكم الحزب الواحد وتحكّم السلطة العسكرية في القرار، وكان من أول المباركين للحراك الشعبي بعد انطلاقه في 22 شباط/ فبراير الماضي. لذلك، أجمع كلُّ مَن رثوا بورقعة على منحه لقب "رجل الثورتين"؛ فهو الوحيد من بين أبناء جيله الذي حظي بشرف أن يكون قائداً في الثورة التحريرية ورمزاً في الحراك الشعبي، وتَكبّد في المرحلتين مرارة السجن دفاعاً عن المبادئ التي يؤمن بها.
وبدا، من بيانات السلطة في رثاء بورقعة، نوع من الحرج؛ فالرجل كان إلى وقت قريب مسجوناً، قبل أن يفرَج عنه بعد وصول عبد المجيد تبون إلى الرئاسة. وتَمثّلت أكثر الرسائل إثارة للتعليق في تلك التي بعث بها رئيس أركان الجيش، الفريق سعيد شنقريحة، باسم أفراد الجيش كافة إلى عائلة الفقيد، بالنظر إلى الخصومة التي كانت للمؤسسة العسكرية مع الراحل، بسبب تصريحاته التي انتقد فيها رئيس الأركان السابق، أحمد قايد صالح، في تسيير المرحلة الانتقالية خلال فترة الحراك الشعبي، والتي انتهت بمقاضاته بتهمة إضعاف معنويات الجيش، وإدخاله السجن الذي قضى فيه أكثر من 6 أشهر.
انتقد بشدة موجة «الربيع العربي» الأولى التي رأى فيها مؤامرة أميركية صهيونية


وممّا لم يغفره كثير من الجزائريين، في تفاعلهم مع موت بورقعة، هو حملة التشويه الواسعة والتشكيك في ماضيه الثوري التي أطلقها التلفزيون الرسمي تزامناً مع سجنه، حيث تمّ اتهامه بانتحال صفة مجاهد آخر كان قائداً لولاية الرابعة التاريخية (منطقة تضمّ وسط الجزائر باستثناء العاصمة) زمن الثورة الجزائرية (1954 - 1962). واتهم التلفزيون، بورقعة، بأنه معروف بنضاله في أحزاب مواقفها متذبذبة ومتغيّرة من القضايا المصيرية للوطن، في تلميح إلى "حزب جبهة القوى الاشتراكية" الذي يُعدّ أقدم حزب معارض في الجزائر، وكان بورقعة أحد مؤسِّسيه.
وفي جنازته، ندّد بعض سياسيّي المعارضة، الذين حضروا بقوة، بما وصفوه بمحاولة استغلال السلطة لوفاة بورقعة من أجل تبييض صورتها ومسح ما فعلته به إلى وقت قريب. وقال كريم طابو، منسق "الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي"، إن التصرّف بهذه الطريقة "مثير للخجل"، معتبراً أن ذلك لن يُنسي الجزائريين ما حدث لهذا البطل التاريخي. أمّا الحقوقي مصطفى بوشاشي فأعرب عن شعوره بـ"الحزن العميق لفقدان رمزٍ جاهَد لتحقيق الاستقلال، وناضل من أجل بناء دولة القانون". وتحدّث رمضان تعزيبت، القيادي في "حزب العمّال"، من جهته، عن تمسّك الراحل بالسيادة الوطنية ورفضه كلّ أشكال الوصاية والتبعية للقوى الإمبريالية ومشاريعها.
وبالفعل، كان صاحب كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" من أكثر الشخصيات الجزائرية حساسية في ما يخص المساس بسيادة الدول العربية؛ فقد انتقد بشدة موجة "الربيع العربي" الأولى التي رأى فيها مؤامرة أميركية صهيونية لزرع الفوضى في العالم العربي. وقبل ذلك، كان من أشدّ الداعمين للمقاومة اللبنانية ضدّ المحتل الإسرائيلي، وجمعته علاقة خاصة مع بيروت التي زارها عدّة مرات في إطار مشاركاته في "المؤتمر القومي العربي". وفي عزّ الأزمة السورية، قام بورقعة بزيارة دمشق في أيار/ مايو 2017، حيث التقى الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي بقي مدافعاً عنه باستماتة. وقال لوسائل الإعلام الجزائرية، ردّاً على منتقديه، إن هدفه من الزيارة هو "إعطاء الدعم المعنوي للمقاومة في سوريا الصامدة ولبنان واليمن والعراق ضدّ المشروع الصهيوني الأميركي".
كما اشتُهر بورقعة بتوجيه نقد لاذع إلى أحزاب الإسلام السياسي، التي ذهب في أحد حواراته إلى اعتبار أنها أصبحت "جامعة لتخريج الغباء السياسي". لكن الراحل، على رغم مواقفه القاطعة وأحياناً الصدامية، حافظ على علاقات طيبة مع الجميع، وظلّ بيته الكائن في أعالي العاصمة مفتوحاً لكلّ السياسيين، وحتى المواطنين الذين يزورونه لاستشارته. ولعلّ الدافع وراء ذلك هو شخصية بورقعة المتواضعة، فهو عندما يقدّم رأيه يبدأ دائماً بالاعتذار إلى مُحدّثيه بأنه ليس مفكراً ولا مؤرّخاً ولا خبيراً، ولكنه مواطن يفسّر الأحداث بفراسته الثورية، ويحاول النصح قدر الإمكان حيال المخاطر التي تحدق بالجزائر والعالم العربي.

من هو لخضر بورقعة؟
ولد لخضر بورقعة في 15 آذار/ مارس 1933 في العمارية في ولاية المدية جنوبي العاصمة، ونشأ في أسرة محافظة قدّمت قوافل من الشهداء، منهم أخوه الشهيد رابح بورقعة، وقد انضمّ الفقيد إلى "حزب الشعب" في سنٍّ مبكرة جدّاً، ثمّ إلى "حركة انتصار الحريات الديمقراطية"، كما أسهم في بثّ خلايا الحركة الوطنية وتوعية الشعب في المنطقة الرابعة عشية اندلاع الثورة.
التحق الفقيد بصفوف جيش التحرير الوطني عام 1956 في نواحي المدية، حيث تَقلّد عدّة مسؤوليات في الولاية الرابعة التاريخية، منها قيادة "كتيبة الزبيرية" التي نفّذت عدّة أعمال بطولية ضدّ العدو . وفي سنة 1961، عُيّن عضواً في مجلس قيادة الولاية الرابعة، ثمّ عضواً في المجلس الوطني للثورة. بعد الاستقلال، كان من مؤسّسي "حزب جبهة القوى الاشتراكية" المعارض، وتَعرّض للسجن في فترة الرئيس هواري بومدين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا