أواخر العام الماضي، كانت واشنطن قاب قوسين أو أدنى من مواجهة تكرار سيناريو «طهران 1979»، حيث كادت أكبر سفارة لها في العالم تتعرّض للاقتحام. كان ذلك ردّاً على استهداف طائرات الاحتلال الأميركي مقارّ لـ«الحشد الشعبي» عند الحدود العراقية - السورية، ليعقب الردَّ قرارٌ "جنوني" بتصفية مَن تعتقد واشنطن أنه المسؤول عن تهشيم "هيبتها"، الجنرال قاسم سليماني. بدأت طهران، مذّاك، حساباً مفتوحاً مع واشنطن، مقرّرة أنها، وحلفاءها في محور المقاومة، لن يرتضوا بأقلّ من خروج الاحتلال من المنطقة ثمناً لدم سليماني. طوال الأشهر الماضية، تلقّت القوات الأميركية رسائل تحذيرية، في ظلّ مراوحة الخيار الدبلوماسي في مكانه. رسائلُ فعلت فعلها لدى واشنطن إلى حدّ دفع الأخيرة إلى إطلاق تهديدات قد تكون الأولى من نوعها ضدّ بغداد. وبمعزل عن جدّية تلك التهديدات من عدمها، فإن الفصائل بدأت التحضير لمرحلة جديدة عنوانها: مواجهة بلا قيود!
«حتى الآن هو تهويل ليس إلّا». بهذه الكلمات، يعلّق مصدر قيادي رفيع في فصائل المقاومة العراقية على رسائل الإدارة الأميركية إلى الحكومة ورئيسها مصطفى الكاظمي، والتي كان نقلها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، محذّراً من استمرار استهداف السفارة الأميركية والمرافق الدبلوماسية الأخرى، وقوافل الدعم اللوجستي التابعة لقوات «التحالف الدولي»، وملوّحاً بأن الرئيس دونالد ترامب «يدرس جدّياً قرار إغلاق السفارة في بغداد، وهو جاهزٌ لتنفيذ ذلك» (راجع «الأخبار»، عدد 4156).
لكن في حال مضت الإدارة الأميركية في تنفيذ تهديداتها، فلن تكتفي، وفق تقديرات حصلت عليها «الأخبار»، بإغلاق السفارة، بل ستذهب نحو إخلاء الميدان من قواتها، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على مؤسسات الدولة، على أن يلحق بها الاتحاد الأوروبي. بذلك، يراد تدفيع العراق «ثمن المقاومة»، بتعبير المصدر، الذي يرسم في حديثه إلى «الأخبار» حدود المواجهة المرتقبة بين الفصائل وقوات الاحتلال الأميركي.
يعود التهويل الأميركي، بحسب التقديرات، إلى سببين أساسيين:
1- القلق من الاستهداف اليومي للقوافل العسكرية التابعة لقوات «التحالف»، وتحديداً من تطوّره من الحالة الرمزية (هو أقرب حالياً لأن يكون ضغطاً للدفع بقوات الاحتلال إلى الانسحاب، وتنفيذ القرار البرلماني القاضي بذلك) إلى حالة مركّزة ومؤلمة في الأسابيع القليلة المقبلة. إضافة إلى ما تَقدّم، ينذر دخول البعثات الدبلوماسية – حديثاً – إلى قائمة المستهدَفين باتساع دائرة «الضحايا غير العسكريين».
2- مساعي ترامب في كسب المزيد من أصوات الناخبين الأميركيين، مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية (3 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري)، على اعتبار أن تهديداته للعراق تخدم صورته كرئيس «حريص» على أرواح جنوده، خاصة أن التلويح بالانسحاب يصاحبه إنذار بعمليات تصفية ستطال قادة الفصائل وعناصرها. وبذلك، يخرج ترامب كـ«مقتصٍّ» من كلّ مقاوم في «بلاد الرافدين».
وبينما يرى البعض أن التهويل الأميركي هو المقدّمة الطبيعية لوقوع مواجهة على الأراضي العراقية لا حدود لها، خصوصاً في حال فوز ترامب بولاية ثانية، يذهب آخرون إلى اعتبار ذلك محاولة لـ«تعزيز أوراق التفاوض» مع إيران، خصوصاً أن واشنطن تراهن على انقسام الأحزاب والقوى السياسية العراقية، والذي من شأنه أن يضعف موقف حلفاء طهران، الساعية إلى «تنظيم» الخلاف «الشيعي – الشيعي»، خوفاً من خروجه عن السيطرة. وما بين الرأيين، تبدو حسابات المواجهة أرجح من حسابات التفاوض، خصوصاً أن لا مؤشرات إلى تراجع إيراني عن مطلب خروج قوات الاحتلال الأميركي من المنطقة، وتحديداً من العراق وأفغانستان، كثمن لاغتيال الشهيد قاسم سليماني.
يرى البعض أن التهويل الأميركي محاولة لـ«تعزيز أوراق التفاوض» مع إيران


وفيما نفت بيانات الفصائل، الصادرة خلال الساعات الماضية، ضلوعها في استهداف البعثات الدبلوماسية، فهي باركت عمليات استهداف القوافل العسكرية، من دون أن تتبنّاها بشكل رسمي. وفي هذا الإطار، تفيد المعلومات الأمنية بأن البيانات الصادرة بين فترة وأخرى عن تنظيمات وليدة ليست سوى «سواتر إعلامية» لفصائل المقاومة، التي رسمت استراتيجية المواجهة مع قوات الاحتلال، منذ مطلع العام الجاري، بُعيد اغتيال سليماني ونائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس.
هذه المواجهة يحدّد قيادي عسكري رفيعٌ في «مجمّع الفصائل»، في حديثه إلى «الأخبار»، معالمها على النحو الآتي:
1- الفصائل غير معنيّة بـ«الرسائل الأميركية»، لكون «هذه التهديدات تطال الدولة والحكومة ولا تطالنا، ونحن نعتبر الوجود الأميركي في البلاد احتلالاً يوجب العمل المقاوم».
2- لم تستجب الإدارة الأميركية للقرار البرلماني القاضي بانسحاب القوات الأجنبية، فيما لم تعلن الحكومة، بدورها، عن جدول زمني رسمي لانسحاب تلك القوات. أما الحوار الاستراتيجي الأميركي – العراقي فلم يسفر عن أيّ نتيجة واضحة. وعليه، فإن هذه العوامل تمنح العمل المقاوم غطاءً إضافياً.
3- فصائل المقاومة اتخذت، منذ أشهر، جملةً من الإجراءات الاحترازية، لـ«توقّعها» جنوح المشهد الميداني إلى المواجهة «القاسية»، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
4- طوال الأشهر الماضية، اتُّبع تكتيك «عبواتٍ ذات رسائل». أما في المرحلة المقبلة، فإن القرار – وهو رهن توقيت المواجهة – يقضي بـ«إيلام الأميركي»، وتأكيد قوة الفصائل وقدرتها على إرغام واشنطن على تنفيذ قرار الانسحاب.
5- الالتزام الحالي ببعض المسمّيات لا يعني «التزاماً أبدياً» بها؛ فلكلّ مرحلة عنوانها وظروفها ومسمياتها. وهذا يعني عودة الفصائل المعروفة إلى ميدان القتال والمواجهة، بـ«الأسماء الصريحة» والتبنّي الرسمي والكامل.
6- أسقط التهويل «أقنعة» كثيرين رفعوا شعار مقاومة الاحتلال، وتحديداً بعد «جريمة المطار». المرحلة، في العراق وفي المنطقة على حدٍّ سواء، هي مرحلة فرزٍ بين رافع لشعار المقاومة، و«راكب لموجة المقاومة». والهجوم الإعلامي المستمر على الفصائل لن يحول دون استمرارها في تنفيذ جدول أعمالها.
7- لا نخجل بتقديم «الشكر لإيران» في بناء قوّتنا، لكن نرفض اتهامنا بأننا ننفّذ «الأجندة الإيرانية» في البلاد. «قرارنا ذاتي، ونابع من اقتناع تامّ بأن الدبلوماسية ليست حلّاً مع الأميركيين، وأن المهلة التي مُنحت سابقاً قد انتهت صلاحيّتها، ونحن أمام مرحلة مختلفة تماماً في ضوء رسائل واشنطن وتحذيراتها».



بنك أهداف أميركي
توازياً مع تهديدها بغلق السفارة وانسحاب القوّات وفرض العقوبات، تلوّح واشنطن باستهداف فصائل المقاومة عُدّة وعديداً. وفي هذا السياق، تشير المعلومات إلى أن الجانب الأميركي أبلغ عدداً من المسؤولين العراقيين عزمه على «القضاء على أهداف كثيرة» سبق أن جمعها طوال الفترة الماضية، علماً بأن قيادات الفصائل اتّخذت، منذ فترة، جملةً من الإجراءات لحماية نفسها ومقاتليها ومقارّها. ووفق المعلومات، يتصدّر «بنكَ الأهداف» الأميركي كلُّ من «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله – العراق» و«حركة النجباء»، فضلاً عن فصائل «جهادية» أخرى.


الكاظمي: لا لـ«كسر الجرّة»
يرفض رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، تحميل إيران، علناً، مسؤولية ما يشهده الميدان في بلاده، على رغم اقتناع عدد من المحيطين به بذلك. وعلى رغم أنه، وفق المعلومات، أبلغ الإيرانيين رفضه للعمليات الأخيرة، مطالباً طهران بـ«ضبط حلفائها»، خاصة أنه انتزع منهم – قبيل تسنّمه رئاسة الوزراء – تعهّداً بتسهيل مهامه، ودعمه في مشروع «بناء الدولة واستعادة هيبتها»، إلا أنه يرفض «كسر الجرّة» مع الجار الإيراني، أو استفزازه بإشهار تموضع جديد لبغداد، تحت وطأة الضغوط الأميركية. وهذا ما يعود إلى اقتناعه بـ»أهمية تحييد بلاده عن الاشتباك الأميركي – الإيراني»، و»إيجاد حال من التوازن بين القطبين المؤثرين في المشهد المحلّي»، كما تقول مصادره.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا