مع افتتاح حقبة جديدة في المنطقة عنوانها التحالفات العربية المعلَنة مع العدو الإسرائيلي، تتّجه الحرب على فلسطين وداعميها نحو فصول أكثر شراسة، بهدف تصعيد الضغوط على الفلسطينيين وإجبارهم على قبول الأمر الواقع. ولعلّ التصريحات التي نُشرت أمس للسفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، والتي ادّعى فيها أن الصراع العربي - الإسرائيلي وصل إلى «بداية النهاية»، تُعدّ دليلاً واضحاً على ذلك. على خطّ موازٍ، يتواصل الحديث عن اعتزام دول إضافية الانضمام إلى ركب التطبيع، في ظلّ انكشاف المزيد من المعطيات حول المسار الذي قاد إلى هذه النتيجة، والذي تزعّمه «الموساد» على مرّ السنوات الماضية.
بعدما أكمل النظامان الإماراتي والبحريني مهمّتهما التي أُوكلت إليهما في تعزيز الإمداد السياسي والأمني والاقتصادي لكيان العدو في سياق الحرب التي يشنّها على شعوب فلسطين والمنطقة، تَتوجّه الأنظار نحو النظام السعودي الذي ينتظر اكتمال رسم معالم الخطوة المطلوبة منه، وتحديد توقيت تصدّره القافلة الخليجية التي تعمل على حرف وجهة الصراع نحو أولويات تتماهى مع المصالح والأولويات الإسرائيلية. وفي هذا الإطار، أعاد رئيس «الموساد»، يوسي كوهين، في مقابلة مع «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، الحديث عن أن الاتفاق مع السعودية «في متناول اليد»، معبّراً عن اقتناعه بإمكانية تحقق ذلك «خلال هذا العام»، مجدّداً القول إن العديد من الدول، الخليجية وغير الخليجية، سينضمّ أيضاً إلى ركب التطبيع، فيما تحدّثت تقارير إسرائيلية عن أن «الدولة التالية ستكون سلطنة عُمان»، التي أوفدت سفيرها في واشنطن إلى مراسم توقيع اتفاقيتَي «السلام» مع الإمارات والبحرين في البيت الأبيض.
مراسمُ ليست، وما سيعقبها من حلقات إضافية في المسلسل نفسه، إلا نتيجة لمسار سرّي وعلني امتدّ على مدار السنوات السابقة، وأشرف عليه جهاز «الموساد»، الذي من مهمّاته الرسمية إدارة العلاقات مع الدول غير المُطبّعة. هذا ما أكّده كوهين بنفسه، بحديث عن أن جهازه «يعمل دائماً للوصول إلى وضع نقيم فيه علاقات على مستويات مختلفة. ويمكن أن تكون في البداية علاقات اقتصادية، وعلاقات تجارية، وعلاقات تبادلية في فهم الأحداث الأمنية - الإقليمية والدولية. في النهاية، أعتقد أن هدفنا جميعاً هو الوصول إلى علاقات رسمية مع الدول العربية». وانطلاقاً من ذلك، اعتبر كوهين الاتفاقيتين الإسرائيليتين مع الإمارات والبحرين «تتويجاً لسنوات من الجهود والاتصالات التي تدار بطريقة دقيقة للغاية». هذه الجهود التي يبذلها «الموساد»، التابع مباشرة لرئيس الوزراء، يقطف ثمارها المستوى السياسي، ويؤسّس عليها مخططات تستهدف مباشرة، كما هو معلن في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، قضية فلسطين أولاً، وإيران تالياً باعتبارها العمق الاستراتيجي لمحور المقاومة. عن هذا، قال كوهين إن «الاتفاقيات الموقّعة مع البحرين والإمارات تعتبر رسالة كبيرة جدّاً تتجاوز فكرة دعم إسرائيل. الاتفاقيات هي تغيير استراتيجي في الحرب ضدّ إيران».
من المستبعد جدّاً أن يلعب الكيان العبري دوراً مباشراً في حماية الأنظمة المُطبّعة


وعلى رغم أن محاولات إضفاء الطابع الاستراتيجي على الاتفاقيتين الإسرائيليتين مع النظامَين البحريني والإماراتي تبدو مبالغاً فيها، بلحاظ حجم الدولتين ودورهما الإقليمي، إلا أن الأمر سيختلف لدى انضمام النظام السعودي إليهما، إذ يمكن عندها الحديث عن خارطة إقليمية جديدة تتّسم بطابع استراتيجي. على أن إقدام كلّ تلك الأنظمة على التطبيع لا يوازي في تداعياته خروج مصر من المواجهة مع اسرائيل، عبر «اتفاقية كامب ديفيد» عام 1979، والتي أحدثت تحوّلاً جذرياً في موازين القوى لمصلحة العدو. وهو تحوّلٌ كان يحتاج إلى آخر مقابل بحجم ثورة إيران لاحتواء تداعياته، وإعادة تصويب حركة الواقع الإقليمي في اتجاهات مغايرة لِما كان يُخطَّط له قبل أربعة عقود.
في التداعيات المباشرة للاتفاقيتين الأخيرتين، من المستبعد جدّاً أن يلعب الكيان العبري دوراً مباشراً في حماية الأنظمة المُطبّعة معه حديثاً، أو أن يذهب إلى حدود التدخل العسكري لمواجهة أيّ تهديد تتعرّض له. كذلك، يستبعد أن تبادر إسرائيل، في المدى المنظور، إلى نصب قواعد عسكرية لها في الخليج وفق ما يجري تداوله أحياناً، والسبب - ببساطة - أنها لا تريد وضع أهداف عسكرية مباشرة أمام العدو، يمكن أن تُقيّد قدرتها على اتخاذ خيارات عملانية عدوانية في المنطقة، خصوصاً تجاه إيران. في المقابل، ستواصل الأنظمة المُطبّعة لعب دور أمني لمصلحة تل أبيب، لكن هذه المرّة مع شرعية سياسية مصطنعة.
في ما يتعلّق بقضية فلسطين، من الواضح أن التأسيس لحقبة جديدة عنوانها التحالفات العربية المعلنة مع كيان العدو، يعني بالضرورة تزخيم محاولات تصفية القضية الفلسطينية. ومن هنا، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد تصاعداً في العدوان على الشعب الفلسطيني، بمشاركة من أنظمة التطبيع التي تعتقد أن إصرار الفلسطينيين على إبقاء قضيّتهم حية سيُقوِّض الكثير من جهودها ومخطّطاتها، وسيشكّل إدانة مستمرّة لها. ولذا، فهي ستتعامل مع كلّ موقف فلسطيني يطالب بالحدّ الأدنى من الحقوق على أنه بمثابة صاروخ مُوجّه إلى عروشها.
تسعير الحرب المباشرة على فلسطين وشعبها افتتحه السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، بمهاجمة الفلسطينيين من جديد، واعتباره أن الصراع العربي - الإسرائيلي وصل إلى «بداية النهاية» في ظلّ اتفاقيات التطبيع. وفي رسالة واضحة الدلالة إلى رام الله، كشف فريدمان، في حديث إلى صحيفة «إسرائيل اليوم»، أن الولايات المتحدة الأميركية تدرس استبدال القيادي السابق في حركة «فتح» محمد دحلان، برئيس السلطة محمود عباس، مستدركاً بأنه «ليست لدينا رغبة في هندسة القيادة الفلسطينية». والظاهر أن فريدمان أراد الإيحاء بأن إصرار رام الله على رفض سياسة التطبيع، وممانعتها إضفاء الشرعية الفلسطينية عليها، سيدفعان واشنطن إلى إطاحة القيادة الحالية التي يرى أنها لا تزال «تتمسّك بنفس الشكاوى القديمة، التي لا أعتقد أنها ذات صلة».
على خطّ مواز، لا تزال واشنطن، ومعها تل أبيب، ترفض توفير مظلّة، ولو شكلية، للإمارات والبحرين، في خياراتهما التطبيعية؛ إذ شدّد فريدمان على أن تأجيل تنفيذ مخطّط الضم ما هو إلا «تعليق مؤقت»، لافتاً إلى أن الإدارة الأميركية الحالية أول إدارة تعترف بشرعية الاستيطان، وتنشر «خطّة سلام» تستبعد إخلاء المستوطنين من منازلهم في جميع أنحاء الضفة، التي سبق أن أشار في الماضي إلى أنها «جزء من إسرائيل».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا