يصعب فصل إعلان الرياض، في الخامس من الشهر الجاري، الشروع في ترميم بيت "لورانس العرب" في مدينة ينبع في منطقة الحجاز، عن مشهد الصراع المحتدم بين السعودية وتركيا، التوّاقة إلى ما بات يُعرف بـ"العثمانية الجديدة". إدراج الترميم ضمن جهود ولي العهد، محمد بن سلمان، لإظهار انفتاح بلاده الراغبة في تشريع أبوابها للسياحة، لا يحجب البروباغندا السعودية المعادية للجمهورية التركية، بلباسها القومي الإسلامي، وطموحها المشروع والمتوهّج من ناحية، والمنفلت من عقاله من نواحٍ أخرى.أدّى "لورانس العرب" دوراً حيويّاً في تسعير "الثورة العربية الكبرى" ضدّ الحكم العثماني المريض في الربع الأول من القرن الماضي. تفيد الحقائق التاريخية البازغة بأن الصراع، الذي له - لا شكّ - أسباب منطقية مثل حقّ العرب المشروع في الاستقلال، وأخرى استعمارية قادها لورانس، انتهى (الثورة العربية) ليس بإعلان موت دولة العثمانيين العتيدة فحسب، بل أيضاً بتقسيم العرب إلى دويلات متناحرة، بخلاف الوعود البرّاقة التي حملها العميل البريطاني الشهير إلى الشريف الحسين بن علي، بتحويله ملكاً على أُمّة العرب بعد تحريرها من "الاحتلال العثماني". رغم ذلك، سيبدو عبثاً إقناع السعوديين وعموم العرب من جهة، والأتراك من جهة أخرى، بأن حروبهم البينيّة تقود إلى إضعاف الطرفين، وتغلغل النفوذ الغربي والصهيوني.
والحقيقة، أن أحد أسباب التمدّد التركي يعود إلى غياب المشروع العربي، فيما الجغرافيا لا تقبل الفراغ. في الموجة الجديدة من الصراع القديم، تظهر تركيا محاصَرة من كلّ حدب وصوب. والأرجح أن السنوات المقبلة ستكون صعبة على أنقرة، حتى إذا لم يَفُز المرشّح الديموقراطي جو بادين. فالأتراك خسروا دمشق، بعدما مضوا بعيداً في عسكرة انتفاضة شعبية (2011) كانت تحمل نيّات طيبة في بداية انطلاقتها. لكن تعقيدات كثيرة، وخطط القطبين المتحالفين مع الولايات المتحدة: المحور التركي – القطري – الإخواني من جهة، والمحور السعودي – الإماراتي – المصري - إبان حكم الإخوان - من جهة أخرى، قدّمت مساهمة لا تمتّ إلى النبل والإنسانية والإصلاح السياسي والديموقراطية بصلة. وقادت، إلى جانب ظروف معروفة، إلى تدمير الحالة السورية، وإغراقها في الدماء والدمار.
وحتى لا ننخدع، فإن اندفاع الإمارات إلى التقرّب من سوريا المُرهَقة، تبغي في صلبها إضعاف الأتراك وحلفائهم من الإخوان. وقد لاحظتُ أن القنوات الإماراتية تبدو المحتضن الأكبر للدراما السورية المميّزة، كما شاهدتُ في شهر رمضان الفائت على الأقل، وهو مؤشر لا ينبئ بخير، إذا عرفنا غايات أبو ظبي التي يستهدف تقرّبها من دمشق، من ناحية ثانية، خلط الأوراق وإحراج الإيرانيين الغاضبين من وصول الإسرائيليين إلى قلب العاصمة الإماراتية.
الجديد في الأمر يتمثّل في محاولة استقطاب العراق للانضمام إلى حصار أنقرة؛ إذ كانت بغداد في نهاية الشهر الماضي مسرحاً لزيارات فرنسية (وزيرة الجيوش فلورانس بارلي، ثم الرئيس إيمانويل ماكرون)، وسعودية (وزير الخارجية فيصل بن فرحان). وهناك أيضاً الحصار الذي يطال تركيا في البحر المتوسّط، حيث النزاع مع اليونان وحلفائها الأوروبيين (فرنسا أكثر من غيرها)، والعرب (الإمارات ومصر)، فضلاً عن الوضع المحتدم بين حلفاء الولايات المتحدة في ليبيا.
بعكس المقاربة العدائية سعودياً – إماراتياً نحو أنقرة، تبدو المقاربة الإيرانية أكثر عقلانية في العلاقة المعقدّة مع جارتها التركية. ولن تجد في خطاب طهران، عموماً، ما يخرج الصراع الدامي مع أنقرة إلى أبعد من سوريا، على رغم ما تمثّله دمشق من محورية في السياسة الخارجية الإيرانية، وفي العلاقة مع حزب الله، والصراع مع كيان الاحتلال.
لا يخفي الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عشقه للدولة العثمانية، وله الحقّ؛ فهي تاريخ بلاده المجيد، وينقل أورهان آل عثمان، حفيد السلاطين المندثرين، في مقابلة سابقة مع "بي بي سي عربي"، كلاماً رومانسياً لإردوغان عن العثمانيين. ويقدّم الرئيس التركي خدماته للدراما التركية عن الحقبة العثمانية، حيث تستثمر أنقرة مئات الملايين من الدولارات لتقديم صورة ناصعة عمّا يُعرف بدولة العثمانيين، ولعلّ أبرز مسلسل في هذا المقام "قيامة أرطغرل"، الذي يجبرك على الجلوس ساعات لمشاهدته.
بالعودة إلى ترميم بيت "لورنس العرب"، فهو يذكّر بما قَدّمه آل سعود وأطراف عرب وغربيون آخرون إلى ما يُعرف بالخلافة الإسلامية. ويتزامن الترميم مع صدور أحكام سعودية مثيرة للجدل في حقّ قَتَلة جمال خاشقجي، ما يذكّر بالقبح السعودي والدور الذي لعبته أنقرة وقناة "الجزيرة" في فضحه، وهو أمر لن ينساه الحاكم الشاب، غير الحكيم، في نجد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا