تلوح بوادر أزمة مصرية ــ تركية جديدة، لكن هذه المرة ليس بسبب التدخل العسكري التركي في ليبيا بل ترتبط بالاستكشافات البحرية التي تجريها أنقرة في منطقة شرق المتوسط، بعدما اعترضت مصر عبر وزارة الخارجية على تنفيذ سفينة تركية أعمال مسح «سيزمي» في منطقة تتداخل مع النقطة الرقم 8، التي تعدّ «منطقة اقتصادية مصرية خالصة». يأتي الموقف المصري مدعوماً بما تم التوافق عليه في «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي يضم قبرص واليونان، ليتوسع لاحقاً ويشمل العدو الإسرائيلي وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، على ما يقول موقع المنتدى الذي مقره في القاهرة. والصدام بين القاهرة وأنقرة بشأن الحدود البحرية، بعد صدامٍ آخر مع نيقوسيا ومنع بالقوة لأعمال الاستكشافات للأخيرة، كاد يتحول إلى اشتباك عسكري مع اليونان الشهر الماضي، للسبب نفسه.تقول مصر إنها تستند إلى «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار» التي تنص على امتداد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى أكثر من 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي، وكما ورد في كتاب لصلاح الدين عامر حول «القانون الدولي للبحار»، فإن سواحل مصر على المتوسط تصل أقصى الغرب من جزيرة كريت على بعد 190 ميلاً من السلوم، فيما تقع السواحل التركية في مواجهة المنطقة الوسطى من الساحل المصري وتبعد عن الإسكندرية نحو 280 ميلاً بحرياً. وكانت مصر قد وقّعت تقاسماً للحدود البحرية مع قبرص في 2003 تبعتها مذكرة تنفيذية في 2014، كما وقعت اتفاقية مماثلة مع اليونان بعد إنهاء قضايا عالقة. لكن الحدود البحرية مع فلسطين لم يتم ترسيمها، انتظاراً لاتفاق ترسيم حدود يفترض أن يوقع أولاً بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
حاولت أنقرة أيام مرسي تمرير اتفاقية ترسيم تهدر مساحات مصرية كبيرة


في المقابل، حددت تركيا الجرف القاري لها للمرة الأولى، عندما أرسلت مخاطبة إلى الأمم المتحدة في 2004، فيما أبرمت اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع جمهورية شمال قبرص التركية التي لا يعترف بها المجتمع الدولي. ونهاية العام الماضي، أبرمت اتفاقية أخرى مع حكومة «الوفاق الوطني» في ليبيا لترسيم الحدود البحرية، وهي بخلاف «بطلانها قانونياً» وفق الرأي المصري لعدم أحقية «الوفاق» في توقيع اتفاقات دولية وغياب الموافقة من مجلس النواب الليبي، فإنها «تنتهك جميع الاتفاقات الدولية المرتبطة بأعالي البحار وتخلق حدوداً بحرية بين دولتين لا توجد بينهما مثل هذه الحدود وفق القواعد الدولية». وبناءً على ذلك، قدمت تركيا مذكرة اعتراض على الاتفاقات التي أبرمتها قبرص، وعلى التراخيص التي منحتها الأخيرة للشركات العالمية من أجل البدء بالتنقيب استناداً إلى التقسيم من جانب واحد.
وكان لافتاً حرص أنقرة على تقوية أسطولها العامل في التنقيب عن الغاز والنفط في السنوات الأخيرة عبر شركة النفط الوطنية. وتركيا من الدول الرائدة في دعم شركاتها الوطنية من أجل التنقيب، على عكس قبرص ومصر واليونان التي تلجأ إلى الشركاء الأجانب، علماً بأن الأولى اشترت سفناً عديدة بدأت العمل بالفعل خلال السنوات الماضية، أبرزها السفينة التي أطلقت عليها اسم «محمد الفاتح»، وهي واحدة من أكثر السفن تطوراً في الحفر في المياه العميقة، ضمن خطة تضمن زيادة الاعتماد على الكفاءة الوطنية بدلاً من الأجانب.
وعلى مدار السنوات الماضية، تتهم مصر تركيا بعرقلة الاستكشافات القبرصية في المتوسط، رغم توقيع نيقوسيا اتفاقيات منفصلة لترسيم الحدود البحرية مع مصر في 2003 ولبنان في 2007 وإسرائيل في 2010، وهي الاتفاقات التي جنّبتها أي خلافات مع جيرانها باستثناء أنقرة التي عمدت إلى عرقلة الأنشطة القبرصية، بل إلى مضايقة السفن التي تجري أعمال المسح بإبعاد الشركات الأجنبية ومنها «إيني» الايطالية. لكن، على العكس من استقواء تركيا عسكرياً على قبرص التي تستعين بالشركات العالمية في مناطقها الاقتصادية لضمان حماية هذه الشركات عبر بلدانها، فضلاً عن الحماية الأوروبية كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يكاد يتشابه مع الموقف اليوناني، يبدو الصدام مع مصر في هذه النقطة مختلفاً كلياً، خاصة أن القاهرة تؤكد أنها لن تسمح بالمساس بمناطقها الاقتصادية الخالصة سواء لتركيا أم لغيرها.
هذا التأكيد يترافق مع تعزيز مصر ترسانتها البحرية بصورة غير مسبوقة بحاملة طائرات «ميسترال» وفرقاطات وغواصات، خاصة منذ تزايد اكتشافات الغاز الطبيعي التي تنفذها كبريات الشركات العالمية. وتعزيز الترسانة للدفاع عن المصالح المائية يعني أن المواجهة العسكرية خيار محتمل، خاصة مع استناد مصر، كما تعلن دوماً، إلى القوانين الدولية وترسيم حدودها بوضوح مع غالبية دول الجوار في شرق المتوسط باستثناء تركيا التي حاولت إبّان حكم الرئيس الراحل محمد مرسي تمرير ترسيم لهذه الحدود كان يهدر مساحات شاسعة على الدولة المصرية، وهو ما رفضته وزارة الدفاع والجهات المعنية بالملف منذ مطلع 2013.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا