طولكرم | بالثوب الفلسطيني التقليدي، وبخطوات بطيئة وظهرٍ مُنحنٍ، تسير السيدة الثمانينية، وهي تتوكّأ على عصاها، إلى جانب السياج الشائك. عيناها ترنوان باتجاه البحر. «شفت البحر بس ع التلفزيون»، تقول فضة بدران (أم زهير) (87 عاماً) من بلدة دير الغصون شمال طولكرم. أبناء الضفة الغربية المحتلّة محرومون من البحر، وقد يعيش أحدهم ويموت ولا يراه، وهو يبعد عنهم عشرات الكيلومترات. «أم زهير» أتت نحو ما يُعرَف بـ»فتحة فرعون» لتحقيق حلمها بعدما بلغت من العمر عِتِيّاً.من أقصى جنوب الضفة أيضاً، قَدِم فلسطينيون آخرون إلى قرية فرعون جنوب طولكرم (شمال الضفة). الهدف هو المرور عبر ثغرة في السياج الأمني، للوصول إلى الأراضي المحتلّة عام 1948. عاشت القرية، خلال الأيام العشرة الماضية، لحظات غير معتادة: ازدحام مروري، سيارات مركونة في الملاعب أو في أقرب نقطة من الثغرة، وطوابير من الناس تتّجه إلى هناك.
لدى وصولك إلى «الفتحة»، تُدخل قدمك اليمنى، ثمّ اليسرى، لتصبح ببساطة داخل أراضي الـ48. على يمينك نقطة حراسة لجيش العدو فيها ثلاثة جنود. هؤلاء كانوا في السابق يُطلقون النار مباشرة على مَن يحاول عبور السياج، لكنهم الآن يتعاملون مع الأمر على أنه طبيعي. أبعد قليلاً، تنتظرك حافلات على بعد 400 متر تقريباً لتقلّك إلى أي ّمكان تريد زيارته.
خلال عطلة عيد الأضحى، سُجّل دخول عشرات آلاف الفلسطينيين عبر تلك الثغرات، التي استغلّها أيضاً «الممنوعون أمنياً» أو المُدرَجون في «لائحة إسرائيل السوداء» ليجولوا في يافا وعكا وحيفا، وذلك بعدما كانت مخابرات العدو ترفض منحهم وأقاربهم وحتى أصدقاءهم تصاريح دخول؛ لمشاركتهم سابقاً في عمليات فدائية أو لنشاطهم الوطني ضد العدو. آخرون انتهزوا الفرصة للتوجّه نحو القدس المحتلة لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، خصوصاً في ظلّ إغلاقه المتكرر بسبب جائحة كورونا.
الشاب محمود أيمن (اسم مستعار لكونه ممنوعاً أمنياً)، من إحدى قرى نابلس، يقول لـ»الأخبار»: «قَرّرت الدخول عبر الثغرات، وأَدّيت الصلاة مع أصدقائي في الأقصى، ثمّ تَوجّهنا نحو مدينتَي حيفا وعكا المحتلّتين، وبهذه الطريقة زرنا بلادنا وعَزّزنا الوجود الفلسطيني في القدس». ويضيف: «هذه فرصة لا تتكرّر للممنوعين أمنياً، فالوضع الميداني والسياسي متقلّب، هناك شبان ممنوعون مدى الحياة من الدخول، وآخرون لسنوات طويلة قابلة للتجديد»، فضلاً عن أن الدخول إلى أراضي 48 يحتاج إلى تصريح مرهون بمزاج ضابط المخابرات الإسرائيلية المسؤول عن كلّ قرية ومنطقة من مناطق الضفة.
بدأ العدو بالسماح بدخول الفلسطينيين من دون تصاريح منذ بداية العام


علي فطاير أتى، بدوره، من مدينة نابلس نحو «فتحة فرعون» من خلال «المجمّع الغربي للمواصلات العامة»، حيث انتهز السائقون الفرصة لتدشين «خطّ سرفيس جديد» يصل إلى الجدار. يقول فطاير إن إغلاق الضفة خلال فترة العيد ونهاية كلّ أسبوع بسبب «كورونا» جعله يُقرّر الذهاب للاستجمام على الساحل المحتلّ. ويضيف: «عندما تغلق الحكومة هنا الضفة الغربية، من الطبيعي أن يتوجّه الناس إلى أقرب متنفّس لهم، الناس انضغطت من الإغلاق وكورونا ونقص الرواتب وانقطاع الأعمال في الضفة، والجميع متضرّر ومضغوط». يعلّق شاب آخر قبيل صعوده إلى الحافلة المتوجّهة نحو يافا المحتلة: «لسنا من حَمَلة تصاريح BMC التجارية لكبار رجال الأعمال ورجال السلطة، فهل ممنوع علينا أن ندخل بلادنا المحتلة من دون تصاريح؟».
غضّ العدو الطرف عن دخول الآلاف عبر ثغرات الجدار الفاصل رسم علامات استفهام كبيرة حول دوافع ذلك، خاصة وأن التسهيلات الإسرائيلية وصلت إلى حدٍّ تَمكَّن معه شبّان فلسطينيون من الدخول إلى الأراضي المحتلة بسيّاراتهم عبر حاجز «الزعيم» قرب القدس المحتلة خلال الأيام الثلاثة الماضية، بحسب ما علمته «الأخبار». إلا أنه لدى محاولة فلسطينيين أول من أمس الدخول عبر الحاجز نفسه، عمد جيش العدو إلى منعهم من العبور، في وقت أُرسِلت فيه تعزيزات مفاجئة إلى الضفة لـ»تأمين» مناطق الجدار الفاصل، تزامناً مع بدء شرطة العدو فرض مخالفات على حافلات كانت تَمكّنت من الدخول عبر الفتحات، واحتجاز حافلات أخرى واقتياد ركابها إلى المراكز الإسرائيلية قبل إعادتهم إلى الضفة، وتكثيف إطلاق قنابل الغاز صوب الفتحات، ما يشير إلى انتهاء فترة السماح بالدخول إلى الأراضي المحتلة من دون تصاريح.

«الفلسطيني الجيّد»
ذهبت بعض التحليلات إلى أن وراء التسهيلات الأخيرة رغبة إسرائيلية في إنعاش اقتصاد الكيان في ظلّ الوضع الاقتصادي السيّئ عند العدو. لكن أغلب الذين زاروا الأراضي المحتلة يرفضون ذلك، قائلين: «نحن لم نصرف أموالنا لصالح العدو ومخابراته، فالمصروف قليل ويصل في النهاية إلى أيدي إخواننا الفلسطينيين في الداخل المحتل، كسائقي الحافلات، وبائعي القهوة، كما أن المطاعم وإن كان عدد روادها قليلاً فمَن يمتلكها هم فلسطينيون أيضاً».
من جهته، يعتقد الباحث في الشأن الإسرائيلي، عادل شديد، أن الدافع الرئيس خلف التسهيلات الإسرائيلية يندرج في إطار «خطّة أنسنة الاحتلال، والتي صاغها مسؤولون في الأمن وخبراء في علم النفس والاجتماع من أجل اختراق الوعي الجمعي الفلسطيني، وتدجين الشعب وتحييده عن فكر المقاومة وتحويل إسرائيل من عدو محتل ومستوطنين يرتكبون الجرائم إلى مَن يمكن العيش معه». ويضيف شديد أن هذه الخطة ستجعل الفلسطيني، من وجهة النظر الإسرائيلية، يقتنع بأن «العدو يريد مصلحته ومعنيّ برفاهيته، وأن إسرائيل ليست مشكلة بل حل». وفي الاتجاه نفسه، يرى الكاتب هاني المصري أن ما جرى أخيراً يتساوق ونظرية رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، حول «السلام الاقتصادي»، والتي «ترى في الفلسطينيين أفراداً لا شعباً بهوية وطنية، ولذلك تحاول إسرائيل إيصال رسالة بأن الفلسطيني الجيد هو الذي يقبل أن يعيش كمواطن بلا حقوق وطنية مقابل العيش والرفاهية والتنقل».
في المقابل، يعتبر ضابطٌ في الارتباط العسكري التابع للسلطة الفلسطينية، في حديث إلى «الأخبار»، أن «العدو يحاول تجاوز السلطة الفلسطينية والردّ عليها لإيقافها التنسيق الأمني، ولا سيما الشق المدني، ويريد بعث رسالة لها بأن يده هي العليا ويستطيع العمل بها أو من دونها». ويتابع الضابط أن «الفلسطينيين سرعان ما سيكتشفون أن العدو يخدعهم بهذه التسهيلات، فهي ليست دائمة، وإسرائيل لا تقامر بأمنها مقابل تسهيلات مفتوحة من دون قيود أو شروط»، وهو ما استدلّ عليه بإغلاق جيش العدو لعددٍ من ثغرات الجدار بنحو مفاجئ. وحول عدم منع أجهزة أمن السلطة للفلسطينيين من الدخول إلى الأراضي المحتلّة، يوضح الضابط أن الثغرات الموجودة في الجدار الفاصل تتبع إلى مناطق مصنّفة «ج» وفق «اتفاق أوسلو»، ولا يمكن بالتالي دخولها أو الاقتراب منها مع وقف التنسيق الأمني.
يُشار إلى أن التسهيلات الإسرائيلية الأخيرة ليست جديدة، إذ سبق أن تمّ في السنوات الماضية اعتمادها للأهداف نفسها تحت مُسمّى «تسهيلات لمناسبة رمضان والأعياد»، لكن اللافت في الأيام القليلة الماضية هو السماح لعدد كبير من الفلسطينيين بالدخول إلى الأراضي المحتلة من دون تصاريح. وبحسب مصدر مطلع تحدّث إلى «الأخبار»، فإن العدو سمح للعمال وللفلسطينيين بالدخول عبر هذه الفتحات منذ بداية الشهر الأول من هذا العام، إنما على نطاق ضيّق، ليتّضح أن هذه الخطوة كانت بمثابة «بالون اختبار» قبيل السماح بدخول عدد هائل مع عطلة عيد الأضحى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا