قرار إسرائيل ضم ثلث الضفة الغربية صدر بالفعل، وإن حال دون تنفيذه قرار أميركي متحفظ فرض على تل أبيب وقف التنفيذ. إن قرّرت واشنطن رفع تحفظها، فستسارع تل أبيب لتنفيذ ما تسمح به من دون إبطاء، شكلاً ومضموناً وتوقيتاً، إذ لا مانع وازناً إسرائيلياً يحول دون الضم.ما يتردّد في تل أبيب عبر إعلامها عن تحفظات هنا وهناك داخل المؤسسة السياسية أو الأمنية، أو ما تتلقاه إسرائيل من مواقف رافضة ومستنكرة إقليمياً ودولياً، لا يحول في الواقع دون الضم. كل التبعات التي يمكن وصفها بالسلبية من داخل الكيان وخارجه، تبقى غير فاعلة و«من دون أسنان»، ولا تثني تل أبيب عن تنفيذ الضم إن سمحت واشنطن به.
لكن متى يصدر القرار الأميركي؟ الإجابة تبقى غير يقينية وغير نهائية، ما لم يصدر القرار عن دونالد ترامب نفسه، الذي يبلور قراراته في الأعم الأغلب من دون ربطه بدوائر ومستويات أركانية، وظيفتها التقليدية في الأساس الإعداد المهني للقرارات وتحديد مساراتها ومن ثم بلورتها.
يدرك رئيس الحكومة الإسرائيلية التأثير الحاسم للعامل الأميركي ويخضع له، وإن كان القرار يرتبط في السياق بإرادته هو، ولا شيء إسرائيلياً يمكن أن يحول دونه إن تحققت مقدماته الأميركية. وهو ما لمّح إليه نتنياهو نفسه في معرض رده غير المباشر على منتقديه واتهامه بالخضوع لليسار الإسرائيلي، لكونه لم يوف بالضم في موعده المقرر في الأوّل من تموز الحالي.
شدّد نتنياهو على أن القرار يصدر بعد دراسته جيّداً مع الجانب الأميركي والإعداد مسبّقاً لتبعاته، وهو ما يتطلب مزيداً من الوقت والبحث مع واشنطن، مؤكداً أن حزب «أزرق أبيض» لا دخل له ولا تأثير في كل ما يتعلق بقرار الضم، توقيتاً وشكلاً ومضموناً. يصدق نتنياهو في ذلك، إذ إن الاتفاق الائتلافي مع «أزرق أبيض» يسحب من وزير الأمن بني غانتس ووزير الخارجية غابي أشكنازي، ومن معهما من حزبهما، أي «فيتو» على قرار الضم، حتى وإن عارضوه وصوتوا في الحكومة والكنيست ضده.
إذاً، هي إرادة أميركية ينتظر نتنياهو أن تتبلور، قبل أن يبادر هو إلى إصدار قرار الضم إسرائيلياً ومن ثم تنفيذه. في ذلك تنقل صحيفة «هآرتس» عن وزير ليكودي شارك في واحدة من الجلسات الأخيرة التي ترأسها نتنياهو لقادة حزبه «الليكود»، تشديده على حقائق أميركية تؤثّر في القرار الإسرائيلي، وأهمّها انشغال ترامب بقضاياه، إذ إن «ما يثير اهتمام البيت الأبيض لا يكمن في إسرائيل، بل بفيروس كورونا والتردي الاقتصادي ومشاكل داخلية مختلفة إضافة إلى الاهتمام الكبير بالانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما الزخم الذي كان (تجاه إسرائيل) يتبدد».
في كلام الوزير الليكودي أيضاً ما يفسر انتظار نتنياهو ما يرد من الولايات المتحدة بعد مرور الأوّل من تموز بلا ضم؛ «منذ أن غادر الوفد الأميركي المفاوض تل أبيب عائداً إلى واشنطن، يُسمع من نتنياهو تشاؤم وتشكيك إزاء خطة الضم، وإن ما زال يبدي إصراراً على تحصيل شيء ما ذي وزن من الأميركيين. وبانتظار القرار الأميركي، الذي لا يعرف متى يأتي، إن أتى، فلن يقدم (نتنياهو) على أي خطوة تتعلق بالضم».
اللايقين الأميركي إزاء الضم يشوش خطة نتنياهو السياسية، داخلياً، التي كان يسعى إلى تحقيق مقدّماتها في الأسابيع الماضية: الضم، ومن ثم خلاف حول إقرار الموازنة في الحكومة، فحل للائتلاف والتوجه إلى انتخابات مبكرة رابعة.
في ظل انكسار المعسكر غير اليميني وتفرّقه بعد انشقاق بني غانتس وأشكنازي عنه، يراهن نتنياهو، وبمستوى ترجيح مرتفع لديه، على فوز معسكر اليمين في الانتخابات المبكرة الجديدة، يليه تأليف حكومة يمينية صرفة تضمن له استقراراً طويلاً في رئاسة الحكومة، مع تحقيق هدف الحصانة ضد مسار المحاكمة الجنائية التي باشرها القضاء الإسرائيلي ضده في قضايا الفساد والرشى.
في ذلك، سعى نتنياهو إلى إنجاز المقدمات، وفي الأساس خطة الضم، مع كل ما يضمن له الاستمرار في منصبه رئيساً للحكومة في فترة حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة. «فرط» الحكومة ونقض الاتفاق الائتلافي، من دون إنجازات تذكر لنتنياهو، وتحديداً خطة الضم، لا يتساوقان وأهدافه التي يريد أن يعبر هذه المرحلة وهو منجز لها. وهي واحدة من أسلحة بني غانتس في المقابل، وتفسر إصراره على رفض الضم وربطه بجملة شروط لا يمكن لنتنياهو القبول بها. وإن كان غانتس قد لمح كذلك إلى أنه يدرك هشاشة الائتلاف، بقوله إنه قد يطرأ حدث سياسي في كل يوم من شأنه حل الحكومة. وبحسب «يديعوت أحرونوت»، يأتي هذا «التهديد» في أعقاب خلافات عديدة بينه وبين نتنياهو، بلغت ذروتها بشأن خطة «السيادة» (الضم).
مع ذلك، ترك غانتس انطباعاً بأنه مستعد لتليين الموقف من استمرار الحكومة، لكونه هو أيضاً متضرراً في حال تقرر حلها: «من أسبوع إلى أسبوع نتعلّم - أنا ورئيس الحكومة - التعايش مع الخلافات وكيفية العمل بشكل أفضل». وفي ذلك، أيضاً، يقول غانتس لإذاعة الجيش الإسرائيلي، أمس، إن الانتخابات المبكرة ستكون «غير مسؤولة» و«سيئة للغاية» بالنسبة إلى إسرائيل في هذا الوقت.
لدى غانتس أيضاً سلاح لا يملك كل مقوّماته، وإن كان يعد سلاحاً مؤثّراً في وجه نتنياهو ويظهر مكانة معتبرة لغانتس نفسه بوصفه غير منقاد لرئيس «الليكود»، إذ إن الجانب الأميركي يمنع الضم، إلى الآن، عبر التمسك بما يقول إنه «الإجماع داخل الحكومة الإسرائيلية»، أي يتمسك بضرورة قبول غانتس - أشكنازي قبل أن يصادق هو على القرار، مع الإدراك لدى واشنطن أن بني غانتس وأشكنازي لن يوافقا على تمرير خطة الضم، وإن كان الاتفاق الائتلافي بينهما وبين نتنياهو يسلب أي تأثير على الضم إن صوّتا ضده في الحكومة، فبإمكان نتنياهو تمرير الضم حتى مع معارضتهما.
سلاح بني غانتس هو اشتراط الأميركيين موافقته على الضم قبل أن يصادقوا عليه، وهي إرادة رفض أميركية للضم بأدوات إسرائيلية، تنتهي مفاعيلها إن غيّرت واشنطن موقفها من الضم. وإلى أن يقرر ترامب التراجع ومباركة خطوة الاستيلاء الكامل على الأرض الفلسطينية، بالشكل والمضمون اللذين يريدهما هو ويخدمان أهدافه، سيتمسك غانتس بموقفه الرافض الذي يظهره معانداً لنتنياهو وندّاً له، وذلك لتقليص ما أمكن من تزعزع المكانة التي أصابها خلل كبير جداً، بعد أن انقلب على إرادة ناخبيه وائتلف في الحكومة مع نتنياهو.
على هذه الخلفية، حديث غانتس عن رفض الضم وضرورة الاهتمام بملفات أخرى، مثل البطالة وتداعيات «كورونا» السلبية على الاقتصاد، هو أيضاً جزء لا يتجزأ من حملة انتخابية مبكرة يعدّ لها، مع إدراكه أنه قد يلجأ إليها بشكل مفاجئ وسريع، تماماً كما ورد في تصريحاته: «حل الحكومة وارد في أي يوم».
عدم اليقين الأميركي إزاء الضم يشوّش خطة نتنياهو السياسية داخلياً


وفي تناغم مع موقف غانتس، قال المدير العام لوزارة الأمن اللواء أودي آدم، في مقابلة مع إذاعة الجيش أمس، إنه «يتعذّر على إسرائيل تطبيق خطة الضم بشكل كامل كما يجري الحديث عنها، لأن لا قدرة لديها على التنفيذ الشامل».
ما يعزز مكانة غانتس ويضرّ أهداف نتنياهو، هو «الرضى الحريدي على الثنائي غانتس - أشكنازي»، الأمر الذي يصعّب على نتنياهو حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة، وإن كان هذا التصعيب لا يحول بشكل كامل دون إلغاء الامكانية من أساسها. مصدر رفيع في «الليكود» يقول في حديث إلى القناة الـ11 العبرية إن «الحريديم لا يريدون حل الائتلاف، فبني غانتس يجاريهم ولا يخطئ معهم. كذلك الأمر مع وزير الخارجية أشكنازي الذي يحافظ بدوره على العلاقة مع الحريديم». ويضيف المصدر أن «معارضة الحريديم حلَّ الائتلاف تعدّ فشلاً لرئيس الحكومة، ومن شأنها أن تصعّب عليه تحقيق أحد أهم أهدافه» لاحقاً بعد الضم.
العبرة والفائدة من الاستعراض هنا هما تفسير ما يرد من إسرائيل حول الضم ومقدماته وأسبابه والتجاذبات الداخلية إزاءه، سواء لجهة الدفع بالضم أو عرقلته. فلا معنى ولا أهمية ولا تأثير لدى طرفي التجاذب في تل أبيب، في كون الضفة محتلة وسلبت من أصحابها، إذ إن الحق الفلسطيني آخر، وربما خارج، سلّم اهتمام الإسرائيليين والقوس السياسي الذي يمثلهم أفضل تمثيل في المؤسسة السياسية، سواء في اليمين أو الوسط أو ما تبقى من فتات يسار. في الوقت عينه، يستهدف ما ورد إعادة التأكيد أن صاحب القرار الفعلي في ما يتعلق بالضم، هو الجانب الأميركي، إن لجهة توقيت الضم أو شكل إخراجه وكذلك مضمونه. وهو ما يُفهم من كلام نتنياهو نفسه، أي من أعلى مستويات القرار السياسي في تل أبيب، بعد أن كان محلاً للتحليلات. قرار الضم كان ويبقى أميركياً، وبمجرد ورود الموافقة عليه من واشنطن، سيتم إخراجه إسرائيلياً، ومن ثم العمل على تنفيذه.