ثمّة «تحوّل» اقتصادي اجتماعي كبير تشهده المملكة العربية السعودية. ليس بالتأكيد هو نفسه «التحوّل» الذي قصده محمد بن سلمان حين أطلق «رؤية 2030». ذلك حلم بات بحكم الميّت سريرياً، على أقل تقدير، فيما المأمول اليوم لدى أصحاب القرار في الرياض هو فقط أن لا تستنزف المملكة أكثر بالأزمات التي خلقها «كورونا» وتفرّعاته، وأهمّها قضية أسعار النفط، ولو كان الأمر بقيام المملكة الأكثر ثراء في العالم بأكبر إجراءات تقشّفية في تاريخها تطال مستوى المعيشة لدى مواطنيها.«لم نواجه أزمة كهذه منذ عقود طويلة». الكلام لوزير المالية السعودي محمد الجدعان. يربط أصحاب القرار في الرياض ما يجري لاقتصاد البلاد بأزمة «كورونا» وتداعياتها الممتدة إلى خزائن المملكة: النفط. إلا أن نظرة أبعد للتأثيرات التي تحل بالاقتصاد اليوم تكشف عن معضلتين: فشل مشروع «التحوّل» لولي العهد محمد بن سلمان. والثانية، مستقبل قاتم بدأت مفاعيله مع حزمة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة أمس، يصعب الخروج منها بأكلاف زهيدة. «كورونا» سرّع المصير القاتم، لتدفع مشاكل ازدياد الدين وعجز الموازنة وانكماش الناتج المحلي ونزيف العملات الأجنبية وتآكل الاحتياطي نحو الحكم بانتهاء «رؤية 2030»، في العام الذي كان مرسوماً أن تجنى أهم ثمارها فيه.
زامنت الرياض الإعلان غير المسبوق عن حزمة إجراءات تقشّف واسعة وقاسية، أمس، مع إجراء تخفيض إضافي لإنتاج النفط. صحيح أن الأمر قد يعود بنفع على المملكة للتخفيف من آثار «حرب النفط» الانتحارية، إلا أن في القيام بتخفيض آخر غير المتفق عليه مع «أوبك +» إشارة واضحة لرضوخ المملكة لأحدث تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من خلال إعلان سحب جزئي للقوات الأميركية في السعودية، أتبعه باتصال مع الملك سلمان بن عبد العزيز.
أما الإجراءات التقشّفية، فأتت أمس على الصورة التي كان «بشّر» بها وزير المالية محمد الجدعان، قبل أيام، أي «صارمة مؤلمة»:
- رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة ثلاثة أضعاف (من 5 في إلى 15 في المئة) بدءاً من الأول من تموز/ يوليو. (بينما يشكّك البعض في الجدوى لانخفاض الاستهلاك، يتوقّع آخرون إيرادات بين 24 و26.5 مليار دولار).
- إيقاف بدل غلاء المعيشة بدءاً من شهر حزيران / يونيو (267 دولاراً لنحو 1.5 مليون موظف حكومي).
- خفض اعتمادات عدد من مبادرات برنامح «رؤية 2030» للإصلاح والمشاريع الكبرى بقيمة إجمالية 26.6 مليار دولار.
- إلغاء بعض بنود النفقات التشغيلية والرأسمالية لعدد من الجهات الحكومية أو إرجاؤها.
عقّب الوزير الجدعان قائلاً: «الإجراءات التي تم اتخاذها اليوم وإن كان فيها ألم، إلا أنها ضرورية للمحافظة على الاستقرار المالي والاقتصادي من منظور شامل، وعلى المديين المتوسط والطويل... وتجاوز أزمة جائحة كورونا العالمية غير المسبوقة وتداعياتها المالية والاقتصادية بأقل الأضرار الممكنة».
يمكن القول إن عام 2020 كان عام دفن «رؤية 2030»


عبر هذه الإجراءات تسعى المملكة لمنع التدهور الحاد لوضعها المالي والاقتصادي الذي وضعها أمام أخطر انكماش منذ عقدين، وفق تقديرات «بلومبيرغ». في الربع الأول، فقط، من العام الجاري، سجّلت الميزانية عجزاً بقيمة 9 مليارات دولار. وقد كان الجدعان صريحاً في تشخيص خطورة ما يجري على مستقبل الاقتصاد السعودي وضرورة التحرّك سريعاً بالقول إن الإيرادات غير النفطية تأثّرت بتوقّف من الأنشطة الاقتصادية أو تراجعها، بينما زاد الإنفاق نتيجة لضغوط لم تكن في الحسبان على قطاع الرعاية الصحيّة ومبادرات لدعم الاقتصاد، وتابع: «هذه التحدّيات مجتمعة أدّت إلى انخفاض الإيرادات الحكومية والضغط على المالية العامة إلى مستويات يصعب التعامل معها لاحقاً من دون إلحاق الضرر بالاقتصاد الكلي للمملكة والمالية العامة على المديين المتوسط والطويل. وبالتالي، وجب تحقيق مزيد من الخفض في النفقات وإيجاد إجراءات تدعم استقرار الإيرادات غير النفطية».
الأخطر بموازاة كل هذه الخطوات (أدّت إلى انخفاض حاد للأسهم السعودية في التعاملات المبكرة أمس) أن المملكة تتجه، ضمن وصفتها لمعالجة الأزمة، نحو زيادة ما ستقترضه هذا العام إلى 58 مليار دولار. يحدث كل ذلك في وقت يشهد فيه السحب من الاحتياطي النقدي نسباً قياسية، مع هبوط إلى أدنى مستوى منذ 20 عاماً للاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي، وارتفاع قياسي أيضاً لحجم الديون من الناتج المحلي. وبحسب «وول ستريت جورنال»، يتعيّن على المملكة أن تسحب من الاحتياطيات الأجنبية 32 مليار دولار، إلى جانب عمليات الاقتراض، لتعوّض خسائر قطاع النفط بسبب «كورونا» و«حرب الأسعار» وعدم نجاح اتفاق «أوبك +» لخفض الانتاج في 12 نيسان الماضي.
اليوم، تأخذ الرياض بزيادة المديونية وإجراءات تقشّفية صارمة، ليست بالعادة من شأن الدول الفاحشة الثراء. وإن تبدي الحكومة ثقة بقدرتها على إغلاق الفجوة الجديدة، فإن الأمر محط تشكيك من الخبراء. لا تتعلّق الضبابية بأمد أزمة «كورونا» والإغلاق العام الذي أودى بقطاعي النفط والسياحة، فحسب، بل لأن الإجراءات الجديدة غير معروفة النتائج (كزيادة الضريبة على القيمة المضافة مع انخفاض التبادل التجاري والاستهلاك)، وغير معروف كيف سيعوّض النزيف الحاد في العملات الأجنبية للمملكة النفطية بأسعار النفط الحالية أو أكثر منها. فضلاً عن ذلك، فإن إعادة التوازن إلى ميزانية هذا العام الخاسرة وتخفيف حدة الضربة الاقتصادية، هدفان يتطلّبان سعر نفط عند 76 دولاراً للبرميل، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. وهو سعر لن يوفّره في حال الخفض الإضافي للإنتاج المقرّ أمس (مليون برميل يومياً ابتداءً من حزيران / يونيو) ولو كان يحقّق رضى الشريك الأميركي.
من المبكر الحديث عن تبعات الإجراءات خارجياً على صعيد حرب اليمن وموقع المملكة، أو داخلياً على المجتمع السعودي، وإن تنبّهت «وول ستريت جورنال» إلى أن الإجراءات «تهدّد الاتفاقية الاجتماعية الطويلة الأمد في المملكة، التي تتمثّل في تولّي عائلة آل سعود على مدى عقود توزيع ثروة النفط في البلاد من خلال الإعانات والوظائف الحكومية السهلة، مقابل الطاعة والسلطة المطلقة». لكن يمكن القول إن عام 2020 كان عام دفن «رؤية 2030» التي أطلقها محمد بن سلمان في 25 نيسان / أبريل 2016. برنامج التحوّل الاقتصادي - الاجتماعي، كان وضع بالأساس في جوهره هدف التخلّص من الاعتماد الكلي على عائدات البترول (أو «إدمان النفط» كما سمّاه ابن سلمان) والاقتصاد الريعي، وعدّ اعتماد الضريبة على القيمة المضافة عام 2018 جزءاً من عملية تنويع مصادر الدخل. بعد أربع سنوات، تنكشف الأزمة حين تُضاعف الضريبة على القيمة المضافة فقط لتغطية أزمة النفط الذي لا يزال يحتلّ المكانة ذاتها، فيما قال ابن سلمان يوم أعلن «رؤية 2030» إن الرؤية تتعامل مع أقل أسعار للنفط و«نستطيع أن نعيش في 2020 من دون نفط»!