يبرود | للوهلة الأولى، يخيّل للداخل الى مدينة يبرود القلمونية أنه في صدد حضور مهرجان خطابي يشبه مهرجانات حزب البعث الاحتفالية. الشعارات المكتوبة على الجدران، والأعلام التي «تزيّن» كل الشوارع لا تختلف عن مراسم المناسبات الخطابية، مع فارق وحيد هو أن الأعلام، بنجومها الثلاث، تعود إلى عهد الانتداب.
سنتان ثبّت مسلحو المعارضة، خلالهما، «حكمهم» للبلدة المنسية، ورسموها كما شاؤوا لها أن تكون. كتابات إسلامية على كافة الجدران. فيما الأرصفة عبارة عن رقع صغيرة، خضراء وسوداء، وبينها نجوم حمراء. ألوان العلَم، ذاته، منتشرة في كل الأحياء، وعلى معظم الجدران، حتى سور كنيسة «سيدة النجاة» لم يسلم منها. يبرود الخارجة عن سيطرة الدولة، على مدار ثلاث سنوات لم تكفِ لسقوط النظام، «سقطت». يصر أحد ضباط الجيش السوري على استخدام المصطلح، لا لشيء، إلا لدقته. السقوط العسكري هو التوصيف الأصح لوضع يبرود، والقصير من قبلها، بحسب الرجل العسكري الذي يقف في ساحة «رأس الشارع»، وسط يبرود، وقفة المنتصر. عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية، تصل أخبار المسلحين الهاربين الذين يشتكون في ما بينهم من خيبة استقبالهم في رنكوس، بعد مقتل المسلحين من «أبناء رنكوس خلال الدفاع عن يبرود ضد قوات النظام».
يقول أحد القادة الميدانيين: «تلة مار مارون حقّقت نقلة نوعية في سير المعارك لمصلحتنا. كانت معركة يبرود، وبجدارة، معركة الأهداف الدقيقة». قدرة الجيش والقوات الرديفة له على الرصد والعمليات النوعية أنهكت قدرات مسلحي يبرود، من دون أي عناء بالنسبة الى قوات التوغل البري، بحسب العسكري. ويقارن القيادي الذي قاتل في القصير من قبل، بين المعركتين بقوله: «معركة القصير هي الأصعب، لأنها كانت عبارة عن معارك ضمن كتل سكنية متراصّة. وكان التقدم يُحسَب لنا بالأمتار، بين بيت وآخر. أما في يبرود، فالتقدّم أوسع وأسرع بين تلة وأُخرى». ويضيف: «كلّما سيطرنا على تلّة من التلال، استطعنا التقدم والسيطرة على حي كامل وما يجاوره. وهذا ما سبّب هرب المسلحين سريعاً بعد سيطرتنا على تلة مار مارون».
بعد المعركة... استعادة الطفولة
لا يمكن الدخول إلى المدينة، التي تبعد عن دمشق 74 كلم شمالاً، إلا عبر مدخلها الرئيسي على دوار الأسود، بسبب إغلاق جميع طرقها الفرعية بالآليات. لا تخرج سيارة منها من دون تفتيش دقيق. حواجز الجيش تفتّش سيارات الضباط والإعلاميين والمدنيين. ضبط الأوضاع، ما بعد المعركة، مثير للانتباه. يبرود في مأمن من أي محاولة للاحتفاظ بأي «تذكار» منها، باستثناء الرصاصات الفارغة. في مستديرة الساحة الرئيسية في يبرود، يرتفع مجسّم للكرة الأرضية فوق حواجز اسمنتية رُسمَت عليها نجوم حمر أيضاً. يتكئ بعض الجنود على السور الحديدي، في استراحة محارب. قرب محل لأحذية الأطفال تقف مجموعة من الجنود تتأمل الواجهة الزجاجية المحطّمة، وما في داخلها من أحذية صغيرة الحجم. يتبادلون في ما بينهم بثّ الأشواق لصغارهم. معظمهم لم يروا أطفالهم منذ أشهر. يرمون الأحذية الصغيرة من أيديهم، ويتجهون إلى الساحة الرئيسية، حيث يعثر أحد رفاقهم على دراجة هوائية صغيرة، فيبدأ بقيادتها وسط الساحة ضاحكاً بفرح طفل. ويسود المكان الهرج والمرج والضحكات، بعد أيام طويلة من الحرب والموت.
بلدة «الثورة المدلّلة»
كل المؤشرات في المدينة تدل على وفرة مؤن «الثوار» بكل ما يحتاجونه للصمود سنوات في وجه المقاتلين المهاجمين. مؤنهم تشمل ما يحتاجونه بدءاً من الصواريخ، وليس انتهاء بالأدوية والغذاء. محالّ السمانة مملوءة بالبضائع، ومتروكة لقدَرها من دون أن تمسسها يد أي من المقاتلين المنتصرين حتى الآن. المنازل الفخمة في المدينة على حالها من دون أي أثر لقصف أو اعتداءات. لا دمار شاملاً في يبرود، على عكس المتوقع، إذ إن الدقة في إصابة الأهداف، لدى الجيش، لم تحصل في أي منطقة أخرى. والتمهيد الناري باستخدام الدبابات، كان الأنجح على الإطلاق بين كل معارك الجيش خلال سنتين من عمر الحرب. أضخم مشفى ميداني يمكن أن تراه على الأرض السورية، موجود في يبرود. لافتات بتصاميم جميلة على جدرانه تشكر جهود إحدى الجمعيات الكويتية على دعمها لـ «الثوار». المشفى مزود بأحدث المعدات الطبية والأدوية، وبكميات هائلة. الخروج من المكان يؤدي إلى كنيسة سيدة النجاة في يبرود. الحي المسيحي لم يعانِ من الدمار إطلاقاً. على سور الكنيسة يمكن رؤية صلبان مرسومة وملونة بألوان علم «الثورة»، في إشارة إلى مشاركة المسيحيين في العصيان ضد النظام. أحد المشافي الميدانية كان هدفاً لمدفعية الجيش في إصابة دقيقة من دون أي أثر لإصابات أُخرى في البيوت المجاورة له. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ساحة رأس الشارع الواقعة خلف الكنيسة. وفي يبرود أيضاً رصدت أحدث الأسلحة والصواريخ، إضافة إلى أحدث معدات التفخيخ. وأمام جميع مقومات الصمود، لا يملك المرء إلا أن يتفهم سخط التنسيقيات على «الثوار» الهاربين، برغم الأدلة الواضحة على «دلالهم» طوال سنتين.
محطّة ثوار القلمون الأخيرة
تتوسط «التلة الخضراء» الاستراتيجية، القريبة من مبنى البلدية، مدينة يبرود. وشهدت التلة، التي تبدو كواحة في صحراء قاحلة، معارك عنيفة انكفأ إليها المسلحون في اليوم ما قبل الأخير من المعركة. تختلف، بأشجار الصنوبر التي تغطيها، عن سائر ملامح البلدة الصحراوية الصفراء. وتظهر من أعلاها التضاريس المحيطة بيبرود، وصولاً إلى فليطا وما حولها. ويبدو منها واضحاً طريق الهروب الذي سلكه المسلحون، وخط سير المدنيين الناجين من يبرود إلى رأس المعرة، فعرسال اللبنانية، كما تظهر آثار قذائف رماها الجيش على المسلحين، عندما تمترسوا بين الأشجار العالية. عشرة شبان عُثر عليهم في أحد المباني، ادّعوا أنهم مدنيون، فتدخل الجيش للتأكد من هوياتهم بعد ورود معلومات تفيد بأنهم مسلحون تخلّصوا من سلاحهم. لا مدنيين في البلدة التي كان يفترض أن تضمّ 30 ألف مدني. ما من مفاجآت عسكرية في وجه الجيش السوري داخل عاصمة القلمون، التي اعتمد مسلّحوها على التخفّي في المغاور، بدلاً من الاحتماء داخل الأنفاق أسوةً ببلدات اُخرى عادت إلى سيطرة الجيش من قبل. المغاور القديمة هي أبرز ما تشتهر به يبرود، وجرى استثماره في المعارك. ولعلّ أقدم الكهوف: كهف اسكفتا العائد إلى عصور ما قبل التاريخ، إضافة إلى وجود معبد يبرود الأثري، إلا أن هذه المعلومات هي آخر اهتمامات المتقاتلين المتأرجحين بين الموت والحياة. عدد الجثث قليلٌ نسبة إلى ما ذُكر في الإعلام، ويعزو أحد العسكريين ذلك إلى الانسحابات وعمليات الهروب الجماعي في اتجاه رنكوس وفليطا. معركة رنكوس المقبلة ستكون أصعب بكثير، ولعلّها ستكون «معركة النفَس الأخير»، بحسب أحد كبار العسكريين، ولا سيّما في ضوء التوتر في الأراضي اللبنانية، ما سيمنع المسلحين في رنكوس من التوجه إليها. التأمل في الجرود المتاخمة ليبرود، في اتجاه رأس المعرة وعرسال، يرسم تساؤلات حول قدرة البلدة اللبنانية على استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من المحاربين الخائبين المهزومين وعائلاتهم، في المرحلة التالية.





عملية لاستعادة بقية الجيوب في القلمون

بعد سيطرة الجيش السوري على مدينة يبرود قبل أيام، باتت استعادة بقية المناطق التي يسيطر عليها المسلّحون في القلمون، بلدات فليطا ورأس المعرّة ورنكوس، مسألة وقت. تفيد المعلومات الواردة من هناك بأن مسلّحي القلمون يتوعدون بفتح جبهات حامية جديدة في مواجهة الجيش. وحتى ظهر أمس، شنّ الجيش هجمات على القسم الشرقي من بلدة رأس المعرة (غربي يبرود)، وعلى الأحياء الشرقية من قرية رأس العين (جنوبي غربي يبرود). وقال أحد القادة العسكريين لـ«الأخبار»: «من المتوقع أن تتم استعادة فليطا خلال الساعات المقبلة. أما رنكوس، البلدة الحدودية الأبعد جغرافياً، فتأتي أولوية تحريرها تالياً». وعثر الجيش أمس في يبرود على معمل لتصنيع الصواريخ والعبوات الناسفة والقذائف، ولتفخيخ السيارات، وعثر أيضاً على سيارات لبنانية مسروقة، تركها المسلحون الذين فروا إلى البلدات المجاورة.