«رواح يا بني على الجيش رواحي، ترابك سورية ينفدا برواحي». يستمع ستيفان إلى الأغنية ويهزّ رأسه طرباً. معاني الكلمات غامضة بالنسبة إليه، لكنه يدرك أنها عن الحرب. تتوقف أم محمد عن الغناء لحظة، تمسح فيها دمعة سالت على خدها. لا ضير من دمعة أو زفرة طويلة تطلقها إحدى النساء. هنا مطبخ أمهات الجنود في حي «الدعتور» في اللاذقية، الذي يضم أمهات وزوجات لجنود وشهداء في الجيش السوري. نساء خبرن وجع الشوق والانتظار الذي حوّلنه إلى عمل وقضية. وستيفان وليمان ضيف المطبخ القادم من فرنسا، ضمن مجموعة تضامنية. يحرص على ترداد كل «أوف»، و«الله عليكي»، تقولها الجالسات حول الطاولة، بينما يلففن «الملفوف». أذناه حاضرتان مع أغنية أم محمد، وعيناه مثبتتان على يدي أم عادل. يتابع أصابعها، وهي تحدد كمية الأرز واللحم المسموح بها لكل لفافة: «مندير وجه الورقة يلي عليه حزوز لجوا وانتبه يا عين خالتك، ما منكتر رز مشان ما تفلش الملفوفة». يتولى الترجمة عمار، رفيقه الجزائري الجنسية. تنضم إلى الطاولة سيدة ستينية، يلمع الدمع في عينيها. يترجم عمار لستيفان ما قالته أم عادل: «هي أم صلاح، ما مرّ أسبوع على استشهاد ابنها، وإجت لتطبخ لرفاقو». تدمع عينا ستيفان بينما يتلقّف يد أم صلاح الممدودة للتحية: «أهلاً فيك يا ابني» تقول.
يلف ستيفان ملفوفته الأولى، وهو الذي جاء إلى سوريا ليعلن تضامنه مع الشعب السوري. «من كثرة ما سمعت الميديا التي تؤكد على الأعداد المتزايدة من الفرنسيين الذين التحقوا بداعش، أردت أن أسجّل موقفاً، واتخذت طريقاً معاكساً، وهو ذهابي إلى سوريا، علماً بأن وزارة الخارجية الفرنسية نصحتنا، وبشدة، بعدم السفر»، يقول ستيفان. ويضيف: «بذهابي إلى سوريا أردت أن أظهر تضامني مع الشعب السوري واستيائي ورفضي للسياسة الفرنسية».
وجود نساء من أديان وشرائح مختلفة في مطبخ أمهات الجنود كان لافتاً بالنسبة إلى ستيفان: «استمتعت بأن أكون في قلب هذا العمل مع سيدات مختلفات: أمهات، وزوجات جنود، لكن لديهن الإرادة الموحدة للمشاركة في الجهود لتبقى سوريا حرة وعلمانية. وحسب قول إحدى السيدات، إن هذا التجمع تم تأسيسه من قِبل سوريين وليس من قبل الحكومة، وهذا يدلّ على أن القاعدة الشعبية تساند جيشها لمواجهة الغزاة الإرهابيين». ويتابع: «لاحظت أن من بين السيدات سيدة تحمل في رقبتها قلادة فيها صورة لرجل. إنها صورة زوجها الذي استشهد في أرض المعركة. هذا مؤثر جداً أن تنخرط في هذا العمل من أجل أن يواصل رجال آخرون معركة زوجها».
أمهات الجنود لم يكنّ دهشة ستيفان الوحيدة خلال وجوده في سوريا، إذ تسنّى له لقاء بعض المقاتلين الجرحى في المشفى العسكري: «ذهبنا لزيارة الجرحى. منهم من لم تكن تلك إصابتهم الأولى. أذكر أن أحدهم قال إنه حين يتماثل للشفاء من جراحه سيلتحق بكتيبته. يا لشجاعته! هؤلاء الجنود يقاتلون ليس بسبب دين أو معتقد، بل ليبقى وطنهم حرّاً وذا سيادة. وهذا مثال لجميع الوطنيين في العالم في وجه العولمة والتعصب الديني».
ستيفان يعتقد أنّه «اليوم لديّ الإحساس بأن أكثرية الشعب السوري تريد قبل كل شيء السلام، ولكن مع بشار الأسد كرئيس للجمهورية، لأنه يمثل وحدة بلد بكل تنوعه، وسيادة شعب موحد وفخور».
ستيفان صاحب الـ43 عاماً، الرياضي الذي يشارك في سباقات الجري في بلاده، استغل فوزه في سباقه الأول بعد عودته من سوريا، ليعلن وفاءه للشعب السوري، ويصعد إلى المنصة لتسلّم جائزته مرتدياً القميص الذي أهدته إياه أمهات الجنود، والمرسوم عليه خريطة سوريا وعلمها وشعار تجمع أمهات الجنود «لنحيا معاً».
«لم يعد هناك سياسة خارجية فرنسية مستقلة، لأننا فقط نتبع تعليمات الإدارة الأميركية، سواء كانت حول الأزمة الأوكرانية أو السورية» يشرح ستيفان، الذي يرى «أنه لا ينبغي أن نختار بين الطاعون والكوليرا، ومع ذلك فإن فرنسا متحالفة مع تركيا والسعودية. يمارسون لعبة مزدوجة كي يأتوا بقائد إقليمي على حساب السيادة».
أخيراً، وردّاً للجميل وتقديراً لموقف ستيفان، تمت دعوته إلى سباق جري أقامته أمهات الجنود على شرفه. «بداية استغربنا لما زارنا ستيفان يلي بلاده شاركت باستباحة دم ولادنا، لكن اندهشنا بتعاطفه وحبه، وكانت فرصة حتى يعرف مين هو الشعب السوري، ويعرفنا نحن الأمهات يلي عم نخدم الجنود، وهو كمان أدهشنا بوفائه لسوريا، فحبّينا نردله الجميل، وعملنا ماراتون على شرفه بالتعاون مع الاتحاد الرياضي، ودعيناه للمشاركة فيه»، تقول سهام الشبل.