الردّ الأميركي على الهجوم الصاروخي الذي استهدف «معسكر التاجي» (45 كلم شمال العاصمة بغداد) كان أشبه بـ«حفلة جنون» تعكس إفلاساً ضارباً في مقاربة الإدارة الأميركية للأزمة المستفحلة مع الأحزاب والقوى السياسية العراقية، والمتعلّقة بانتشار قواتها على طول بلاد الرافدين. قيادة «العمليّات المشتركة» العراقية أكّدت في بيان أمس، تعرّض البلاد إلى «اعتداء سافر» من طائرات أميركية مقاتلة استهدفت قطعات الجيش العراقي (مغاوير الفرقة 19) ومقر اللواء 46 في «الحشد الشعبي»، وفوج شرطة بابل الثالث، ومطار كربلاء (قيد الإنشاء، ويقع على الطريق الرابط بين كربلاء والنجف)، ما أسفر عن استشهاد خمسة جنود ومدني، وجرح عدد آخر.هو ردّ «مجنون» بتوصيف مصادر أمنية رفيعة، لأنه يكسر «قواعد الاشتباك» المعمول بها منذ سنوات، والقاضية بـ«تحييد» مؤسسات الدولة ومنشآتها في سياق المواجهة بين فصائل المقاومة وقوّات الاحتلال. مصادر سياسية مطّلعة قالت لـ«الأخبار» إن الهجوم الأخير «يعكس إفلاس الإدارة الأميركية، ورفضها التزام القرار السيادي العراقي الداعي إلى انسحاب القوات الأجنبية وفق جدول زمني يُتفق عليه بين الجانبين... واشنطن ترجمت عجزها عن تحديد عدوّها من صديقها». وعليه، فضّل الجيش الأميركي العسكرية اعتبار كل نقطة في البلاد هدفاً يمكن استهدافه. هذا «الجنون» من شأنه، وفق المصادر، أن «يعقّد الأزمة أكثر، ويشرّع الأبواب أمام تصعيد مرفوض (حالياً) من الحكومة الاتحادية، والمؤثرين في القرار السياسي».
بيان «المشتركة» حمل لهجة حادّة ضد الجانب الأميركي كلهجته ضد «المجموعات» التي استهدفت «التاجي»، إذ وصف ما جرى «انتهاكاً لمبدأ الشراكة والتحالف بين القوات الأمنية العراقية، والجهات التي خطّطت ونفّذت الهجوم الغادر»، كما رأى أن الحديث عن كون «الهجوم ردّاً على العمل العدواني الذي استهدف التاجي ذريعة واهية تقود إلى التصعيد ولا تقدّم حلّاً للسيطرة على الأوضاع». في هذا الإطار، تساءل البيان عن المبرّر الأميركي لاستهداف المنشآت الحكومية، العسكرية والمدنية، في ظلّ التوصيف الأميركي للضربات الجوية بـ«الناجحة»، والإعراب عن الرضى بـ«حجم الأضرار التي خلّفتها».
حمل بيان «المشتركة» والرئاسات الثلاث لهجة حادّة ضد الاحتلال الأميركي


في غضون ذلك، تتساءل المصادر عن سبب الاستهداف المتكرّر لمقارّ «الحشد» الذي يُعدّ جزءاً من المؤسسة الأمنية ــــ العسكرية، وملتزماً قرار الدولة العراقية، فـ«المواجهة» بالمنظور الأميركي ضد الفصائل، وليس «الحشد»، وعجز واشنطن عن مواجهتها يدفع بها إلى استهداف «الحشد» في ظاهرة متكرّرة. أما التصعيد الخطير، فكان استهداف مقارّ الجيش والشرطة الاتحاديّة، التي «تواطأت» مع المنفذين الميدانيين لضربة «التاجي»، كما ينقل مطّلعون على مناخات السفارة الأميركية. لكن المصادر السياسة تعلّق على الإعلان الأميركي «إبقاء حاملتي طائرات في المنطقة (للمرّة الأولى منذ 2012) للرد على التهديد، المتمثّل في الأسلحة المتطوّرة التي قدّمتها إيران»، بالقول: «الجانب الأميركي بات عاجزاً جدّاً» منذ اغتياله نائب رئيس «هيئة الحشد» أبو مهدي المهندس، وقائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني، ورفاقهما، في محيط مطار بغداد الدولي، مطلع العام الجاري، كما أنها رأت تصعيده الأخير قائماً على «حجج واهية».
بالعودة إلى بيان «المشتركة»، وبيان الرئاسات الثلاث والأحزاب والقوى السياسية، يُسجّل التنديد والاستنكار المصاحب بلهجة حادّة، ووصف ما جرى بأنه «تصرّف خارج عن إرادة الدولة العراقية، واعتداء على سيادتها، ويقوّي التوجهات الخارجة عن القانون... فلا يحق لأي طرف أن يضع نفسه بديلاً عن الدولة وسيادتها وقراراتها الشرعية». هذه اللغة استُتبعت بتسليم الخارجية العراقية السفير الأميركي لدى بغداد، ماثيو تولر، مُذكّرة احتجاج، وتبليغه بأن الحكومة سترفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وأخرى إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بشأن الاعتداء على مقارّ الجيش والشرطة و«الحشد». لكن السؤال يبقى، وفق أكثر من مصدر، أمام هذا الحراك الدبلوماسي، عن مآلات المفاوضات مع الجانب الأميركي الداعية لانسحابه، وهذا ما سيترجم «الحرص» الحقيقي على السيادة الوطنية ويثبتها فعلاً لا قولاً أو بياناً.