اتّخذت الرياض القرار باللعب على حافة الهاوية عبر اتباعها سياسة الأرض المحروقة، مدفوعةً أولاً برفض موسكو «ابتلاع الطعم» السعودي الذي جاء على شكل اقتطاعات حادّة في إنتاج النفط هي بمثابة هدية مجانيّة للأميركيين، وبحملة اعتقالات جديدة استهدفت كبار أمراء آل سعود لتعبِّد طريق محمد بن سلمان إلى العرش، ثانياً. لكن الأسوأ لم يأتِ بعد، وخصوصاً أن المقامرة الكبرى لـ«أوبك» جاءت بخلاف ما تشتهي الرياض، ما دفع بالأخيرة إلى إطلاق حربٍ نفطية، سيكون وقعها أشدّ مِن أزمة منتصف عام 2014، ولا سيما أنّها تترافق هذه المرة مع وباء عالمي أفقد سوق النفط ما يزيد على 30% مِن إيراداتها. وقد افتتحت الاسواق على تراجع تاريخي هو الأكبر من 29 عاماً، إذ هوى خام القياس العالمي برنت بنسبة 23.98% (35 دولاراً)، وذلك في انخفاض وصل إلى 50%، منذ بداية العام الحالي.
وبإلغاء جميع القيود على إنتاج النفط، تتأهّب الأسواق لجولةٍ جديدة من تراجع الأسعار بعد قرار السعودية خفضها، في موازاة رفع الإنتاج بحدودٍ قياسية، لتعيد إلى الواجهة معركة الحصص بين كبار المنتجين. حربٌ بدأت ملامحها تتجلّى عندما اصطدمت مساعي «منظمة الدول المصدِّرة للنفط»، «أوبك»، إلى تعميق اقتطاعات إنتاج النفط بـ 1.5 مليون برميل إضافية (ليبلغ حجم الخفض الكلّي 3.2 ملايين برميل)، ومدِّ أجلها لغاية نهاية العام الجاري، برفض روسي، أحدث، الجمعة، أسوأ خسارة تكبّدتها أسواق النفط في 11 عاماً، وأنهى، عملياً، هدنة استمرّت على مدى ثلاث سنوات بين «أوبك» ومنتجين مستقلِّين بقيادة روسيا، شكّلوا معاً ما عُرفَ بتحالف «أوبك+». وبانهيار التحالف، أطلقت السعودية، اعتباراً من ليل السبت، حرباً نفطية بقرارها خفض أسعار النفط المطروح للبيع إلى أدنى مستوياته في 20 عاماً (لزبائن آسيا بنحو 6 دولارات للبرميل، و7 دولارات للولايات المتحدة، وبين 6 إلى 8 دولارات لأوروبا الغربية ومنطقة البحر المتوسط حيث تبيع روسيا جزءاً كبيراً مِن إنتاجها النفطي)، في محاولة لتأمين حصة سوقية أكبر. «إشعال حرب الأسعار»، سيؤدّي، برأي الخبير في شؤون النفط في المنطقة، بيل فارين ـــ برايس، إلى زيادة مستويات الإنتاج، لأن المملكة ستسعى إلى «تعزيز حصتها السوقية بأيّ ثمن»، وسيكون الأمر «بمثابة حمام دم». خطوة خفض الأسعار ستترافق مع إغراق الأسواق بالنفط، إذ تعتزم المملكة رفع إنتاجها البالغ، راهناً، 9.7 ملايين برميل، إلى حوالى 11 مليون برميل يومياً، علماً بأن طاقتها الإنتاجية تبلغ 12 مليون برميل. تأسيساً على ذلك، فإن ما جرى يُعدُّ «بمنزلة صدمة سعودية شاملة واستراتيجية ترهيب بهدف زيادة الكميات السعودية والتنافس مع النفط الروسي في فنائهما الخلفي في أوروبا وآسيا»، ما سيؤدي، وفق تيلاك دوشي، من معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية، إلى سيناريو أسوأ من ذلك الذي أرهق السوق في النصف الثاني من عام 2014، وسيدفع أسعار النفط إلى الانخفاض إلى مستويات 20 إلى 30 دولاراً للبرميل، في ضوء صدمة الطلب المتزامنة مع تأثير فيروس «كورونا» على النشاط الاقتصادي.
الروس الذين لم يبتلعوا الطعم، كما يوضح أندرو ليبو من مركز «كوموديتي ريسرتش غروب»، لديهم رؤية مختلفة تماماً عن رؤية السعودية، ولا سيما أن الاقتصاد الروسي، الأكثر تنوعاً مِن معظم اقتصادات الكارتيل النفطي، يعتمد على النفط بمستوى أقلّ من اعتماد دول الخليج القائم اقتصادها عليه. وتكمن الأولوية بالنسبة إلى موسكو، ثاني أكبر منتج للنفط بعد الولايات المتحدة، أيضاً بعدم تقديم تنازلات للخصم الأميركي الذي يستخرج يومياً أكثر من 13 مليون برميل نفط ويصدِّر ما بين 3 و4 ملايين برميل في اليوم. أوضح ذلك عملاق النفط الروسي، «روسنفت»، إذ أشار، يوم أمس، إلى أن خفض الإنتاج دفع واشنطن إلى التحرّك سريعاً لتعويض الكميات المفقودة في الأسواق العالمية، «لذلك، من وجهة نظر روسيا، كانت هذه الصفقة بلا معنى». ولأن دعم الأسعار سيكون بمثابة هدية لصناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة، «قرّر الكرملين التضحية بـ(أوبك+) لوقف تزايد إنتاج النفط الصخري في أميركا»، بحسب رئيس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في موسكو، ألكسندر دينكين. ويضيف لـ«بلومبرغ»: «إنها رسالة من موسكو إلى واشنطن التي وقفت أمام مشروع نورد ستريم للغاز الروسي نحو ألمانيا... بالطبع، قد يكون الاضطراب مع السعودية أمراً محفوفاً بالمخاطر، لكن هذه هي استراتيجية روسيا الحالية».
وهوَت مؤشرات أسواق المال في السعودية وباقي دول الخليج بشكل حادّ في تعاملات أمس، بعد انهيار اتفاق خفض إمدادات النفط واعتقال أمراء آل سعود؛ إذ أغلق مؤشّر سوق «تداول» في المملكة منخفضاً 8.32%، وهبط سهم «أرامكو» 9.1%، إلى 30 ريالاً (8 دولارات)، ليتراجع للمرّة الأولى منذ إدراج عملاق النفط في البورصة المحلية في 11 كانون الأول/ ديسمبر، إلى ما دون سعر الطرح الرئيسي وهو 32 ريالاً (8,5 دولارات). ومع تراجع سعر سهمها، انخفضت قيمة الشركة الإجمالية إلى ما دون 1,6 تريليون دولار، علماً بأن السعودية كانت تصرّ على تقييمها بنحو تريليونَي دولار. وفي الدول الخليجية الأخرى، انخفض مؤشر سوق دبي بنحو 7.9%، وهو التراجع الأكبر منذ عام 2008. وخسر مؤشِّر سوق أبو ظبي 5.4% وسوق قطر 2.9%، بينما تراجعت أسهم الكويت بنسبة 10%، ما دفع السلطات المالية إلى التدخل وتعليق التعاملات. كذلك، تراجع مؤشّر سوق البحرين بنسبة 43%، وعمان بنحو 2.8%.