تبدو السعودية، اليوم، وقد حسمت أمرها مع قطر، ساعيةً إلى عزلها خليجياً وعربياً ودولياً، وتضرب بعنف أداتها التدخلية الإقليمية، الإخوان المسلمين، وتشنّ عليها هجوماً شرساً، لا نعرف سوى الجزء المعلن منه؛ فالأجندة مكتظّة بالإجراءات اللاحقة، وعلى المستوى السري، لم يعد مستبعداً توجيه ضربات أمنية للقطريين ومصالحهم بوساطة أدوات إرهابية سعودية، بل حتى بوساطة الصدام العسكري.
القطريون الذين يملكون، بدورهم، شبكاتهم الإرهابية الخاصة، سيردّون على السعودية في سوريا، ربما في المدينة/ الدولة المزدهرة، إنما الهشّة أمام سلسلة تفجيرات، دبي، وحتى داخل السعودية نفسها؛ يمكن تغطية المعارضة الشيعية سياسياً وإعلامياً، ويمكن تحريك خلايا نائمة.
بالطبع، سيكون احتدام الصراع بين مركزَي الوهابية هذين لحسن حظ العالم العربي والإسلامي؛ دماء السوريين لن تذهب هدراً، ولن يكون محور المقاومة مضطراً للرد على الإرهاب السعودي ـــ القطري؛ سيتولى الطرفان الاقتصاص في حربهما الثنائية التي يبدو أنه لا مفر منها.
مضى قرن كامل على التدخل البريطاني لطيّ مطالبة المملكة السعودية بضم شبه جزيرة قطر، التي يعدّها السعوديون جزءاً من الإحساء، لكن الجمر لا يزال تحت الرماد؛ الرياض لا تزال تنظر إلى قطر كإقليم انفصالي، ولا تزال تنظر إلى آل ثاني كأتباع متمردين على عرش الدنيا والدين السعودي. بالمقابل، يرى آل ثاني أنفسهم جديرين بمنافسة ملوك الرياض؛ فعوامل الجغرافيا والديموغرافيا والمكانة الدينية والسياسية لا قيمة لها، جدياً، في عالم القبائل.
لكن تلك مجرد الخلفية النفسية التاريخية، فاللوحة اليوم معقّدة للغاية: قطر الصغيرة القليلة السكّان، وإنما البالغة الثراء، انتهجت استراتيجية ناجحة لحماية الذات وتعظيم المكانة والدور؛ عملت على شغل أكبر المساحات العربية في العالم الافتراضي للفضائيات والإعلاميات والثقافيات والإنترنت، المئات من الإعلاميين والمثقفين والتقنيين العرب ـــ الذين لا يمكن انتاجهم إلا في مجتمعات عريقة وكثيفة ومتحضرة ـــ كانوا، وقد همّشهم فشل التنمية العربية، في خدمة المشروع القطري، معهم الآلاف من نخب العالم العربي، ممن يبحثون عن منبر وجدوه في قناة «الجزيرة»؛ لكن قطر لم تكتف، حسب الدرس السياسي اللينيني ـــ «بالجريدة»، وإنما عملت على امتلاك تنظيم سياسي إقليمي ودولي. وكما يشتري الخليجيون، كل لوازمهم جاهزة، اشتروا تنظيماً عريقاً جاهزاً وبحاجة إلى مقر ومنبر وتمويل، أي الإخوان المسلمين. كل شيء كان ناجحاً قبل الربيع العربي، كانت قطر قادرة على اختراق الفضاء العربي إعلامياً وسياسياً، تحظى بالمقبولية لدى المتصارعين، تقيم علاقات مع محور المقاومة ومع إسرائيل، ومع إيران وتركيا؛ بدت أعجوبة ربع القرن الأخير! لكن النجاح الصاعق الكبير أوهمها، وانتقل بها من استراتيجية حماية الذات إلى استراتيجية السيطرة على العالم العربي؛ هنا اصطدم الافتراضي بالواقعي، وبدأ يتهشم، بينما السعودية تنتظر للأخذ بالثأر، ووضع حد للتوسع القطري.
جزئياً، كان بإمكان قطر، لو أنها اكتفت بقدر من النجاح في مصر وتونس وليبيا، أن تحافظ على مكانتها، وتعزز ودورها، لكنها توهمت بأنها يمكن أن تلعب لعبة الربيع العربي، ولو بالدمار وأنهر الدماء، في سوريا؛ هنا انتهت اللعبة؛ فسوريا التي تتمتع بنسيج اجتماعي داخلي يمثل قاعدة واسعة نسبياً للنظام، وتتمتع بجيش متماسك ومقاتل، تشكل أيضاً معقلاً للروس والإيرانيين والمقاومة والتيارات اليسارية والقومية والعلمانية العربية، ومعقلاً للمسيحية المشرقية. وكل هذه القوى انخرطت في معركة الدفاع عن سوريا، ونظامها، وخياراتها في مواجهة غرب منهك وضائع الرؤية، وقوى إسلامية بلا أفق فكري حديث ولا برنامج ولا زعامة، لا تملك من متاع السياسة سوى التكفير والإرهاب.
في سوريا، وسّعت قطر تنظيمها ليشمل، بالإضافة إلى الإخوان المسلمين، الشبكات الإرهابية، وتحالفت مع تركيا في حرب ضروس على الشعب السوري، وأمسكت بالملف كله ردحاً من الزمن، وخاضت الحرب بكل أوراقها، بما فيها ورقتها الأثمن، حركة حماس، فأخرجتها من سوريا، ومن محور المقاومة، وانجرّت الى المشاركة في الصراع السوري، فخسرت ما كانت تتمتع به من إجماع شعبي عربي، وفقدت سمعتها وهيبتها كحركة مقاومة. والخسارة، هنا، في النهاية، خسارة قطرية صافية من دون مقابل.
هزيمة المشروع في سوريا أدت إلى تخلخل موازين القوى على مستوى المنطقة كلها؛ سقط الإخوان المسلمون في الأردن ومصر وتراجعوا في تونس، وتخلخلت قوتهم في تركيا نفسها، ومع ما أصاب المشروع القطري من انتكاسات ووهن، كان هناك الأميركيون غير الراضين عن التوسع القطري الطموح، والسعوديون الذين تقدموا بعد تنحي الحمدين بالهزيمة، إلى صدارة المشهد، في سلسلة من المبادرات: (1) تكوين التحالف السعودي الإماراتي البحريني الأردني، (2) الإغداق المالي والدعم السياسي والإعلامي للنظام العسكري المصري في مواجهة الإخوان المسلمين، (3) تجديد الحرب في سوريا من خلال محاولات مثابرة لإعادة تكوين الجماعات المسلحة الإرهابية، وتوفير الدعم السياسي والتمويل والتدريب والتسليح لمن يقدّم منها الطاعة للمملكة السعودية، (4) التحرك في لبنان على مستويين، إرهابي مضاد لحزب الله والمصالح الإيرانية، يبتز الآخرين على المستوى السياسي لإعادة تعويم تيار المستقبل، وإحداث اختراقات في جبهة 8 آذار.
مشكلة السعودية الكبرى الباقية تكمن في العلاقة مع إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما؛ فالعلاقات المتشعبة الواسعة النطاق وشبه العلنية مع شبكات الإرهاب الإسلامي، تجاوزت، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، الحدود. وفي مفصل أساسي في السياسة الخارجية الأميركية هو مفصل التفاهم مع إيران في الملف النووي والملفات الإقليمية الساخنة الأخرى، رأت السعودية أنها معزولة، وهي التي كانت تراهن على ضربة أميركية عسكرية حاسمة لإسقاط النظام السوري، فاجأها التفاهم الروسي ـــ الأميركي في صيف 2013، على الاتفاق مع نظام الرئيس بشار الأسد على التخلص من الأسلحة الكيميائية السورية، وتلافي حرب لم تكن واشنطن تريدها، إنما وجدت نفسها متورطة على حافتها.
السعودية التي تواجه التحدي الروسي الإيراني السوري، والضغوط الأميركية، والاستعداد القطري للانقضاض على دورها مجدداً، ذهبت إلى ثلاثة خيارات استراتيجية هي (1) التحالف مع إسرائيل والتنسيق معها في الحرب السورية وفي المواجهة المحتملة مع إيران، (2) السعي إلى الإمساك الكامل بورقة «المعارضة» السورية الخارجية، وبالتنظيمات المسلحة على الأرض، وضرب أي تنظيم لا يخضع كلياً للإدارة السعودية، باعتباره تنظيماً إرهابياً. (نلاحظ أن معيار الإرهاب، هنا، لا يتعلق بالفكر التكفيري واستخدام العنف الدموي ضد المدنيين والذبح على الهوية الطائفية الخ؛ فالتنظيمات الإسلامية التي تدعمها السعودية في سوريا باعتبارها معتدلة تتبنى برنامج فرض الشريعة وإقامة نظام إسلامي طائفي وتمارس التعبئة والقتال على أساس تكفيري وطائفي الخ)، (3) استخدام لعبة الباب الدوّار في الموقف من الإرهاب؛ إدانته والاستمرار في دعمه وتشغيله لضرب النظامين السوري والعراقي، على أسس التحشيد الطائفي ميدانياً، وباعتبارهما حليفين للعدو الرئيسي للسعودية، أي إيران. وفي هذا السياق ـــ ومن دون التوقف عن العلاقات مع الإرهابيين تحت مسميات مختلفة، الجيش الحر، المقاتلين «العلمانيين» المدربين لدى السي آي إيه، الجبهة الإسلامية المصنفة كمنظمة «معتدلة» ـــ قامت السعودية بالإعلان عن سياسات تمهد للتوافق مع «الزائر الأميركي الكبير»، باراك أوباما، الذي يحل ضيفاً على السعودية قريباً، للتفاهم على تجديد التحالف الثنائي وسط التغيّرات الإقليمية والدولية العاصفة: حظرت الرياض على مواطنيها القتال في سوريا أو خارج المملكة ـــ لكن من دون إجراءات ميدانية ـــ وأوقفت التحريض التكفيري داخلها، ثم انتهت إلى إعلان عدة منظمات باعتبارها إرهابية: «داعش» المتمردة أصلاً عن الخضوع للاستخبارات السعودية (تقاتلها في سوريا وتدعمها في العراق!) و«جبهة النصرة» المصنّفة، بالأساس، إرهابية، لدى الأمم المتحدة. لكننا، هنا، لسنا سوى بإزاء مسميات متحركة لجسم تكفيري طائفي إرهابي تسعى السعودية إلى التخلص من بعض قياداته وتنظيم صفوفه في جيش موحد تحت إمرتها. لكن جرى استخدام هذه المناورة الإعلامية الأمنية لتوجيه ضربة موجعة للقطريين: إعلان حركة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً؛ ليس هذا الإعلان عابراً ولا هو مجرد تلاعب بالألفاظ والمسميات؛ فلسنا، هنا، بإزاء جسم إسلامي تكفيري مقاتل يمكن إعادة تدويره وفكه وتركيبه، بل بإزاء حركة سياسية صلبة الحضور المادي والسياسي، وإعلانها تنظيماً إرهابياً من قبل السعودية، سوف يرتّب على الحركة أعباء سياسية ثقيلة جداً، ويربكها، ويزيد من حصارها؛ ففي مصر سوف تزداد الحرب التي تشنها على الإخوان، ضراوة وشدة، وفي فلسطين، سوف يكون على حماس أن تلجأ إلى فتح رام الله، كملاذ آمن، وفي تونس، سوف تضطر حركة النهضة الإخوانية إلى المزيد من التراجع والتواضع، أما في الأردن، فقد حدث ما يأتي: لم يكد حبر القرار السعودي باعتبار الإخوان تنظيماً إرهابياً، يجفّ، حتى تحوّل إخوان الأردن من المعارضة إلى الموالاة!
هذه ضربة معلّم سعودية عنيفة للأداة السياسية الإقليمية لآل ثاني، تتضمن، في الوقت نفسه، إحراج الأميركيين، ولزّهم إلى ارتباك مضاعف في علاقاتهم مع الإخوان المسلمين، وفي موقفهم من الصراع الدائر في مصر، وخصوصاً أن السعوديين قدّموا لواشنطن تنازلات شكلية ووهمية في ملف محاربة الإرهاب. والآن، إذا ما تمكنت الرياض من التوصل إلى تفاهمات مع زائرها، أوباما، فسيكون على قطر أن تتلقى المزيد من الضربات السعودية.
الرد القطري الممكن انطلق من حيث ارتكبت قطر خطأ عمرها، أي من سوريا؛ تطبيع العلاقات مع دمشق مقدمة لا بد منها للقيام بتفاهمات جوهرية مع طهران وموسكو. وهذا ما بدأت الدوحة القيام به فعلاً، ويلقى قبولاً سورياً؛ الآن، تحت تزايد الضغط السعودي، سوف تتكثف الاتصالات القطرية مع أطراف محور المقاومة، وعما قريب، ربما نشهد تطورات ميدانية في الحرب السورية، تعلن نهاية التدخل القطري ـــ التركي فيها، وتسريع مصالحات مع جهات وتنظيمات على الأرض، تبيّن من خلال عملية إطلاق سراح الراهبات المختطفات في يبرود، أنها ما تزال تدين بالولاء للدوحة؛ هل ستكون مصالحة منتظرة في يبرود بالذات، بداية لمسيرة تفاهم بين محور المقاومة وقطر؟ سؤال برسم المستقبل القريب.




«تمرّد» أردني على السعودية

أبلغت الرياض، عمّان، بصورة حاسمة، رفضها، من حيث المبدأ، أي وساطة يبدو أن الدبلوماسية الأردنية اقترحت القيام بها لإجراء مصالحة سعودية ـــ قطرية. المسؤولون الأردنيون الذين يدركون حجم الآثار السلبية التي سيتركها التفكك الخليجي، وتفاقم الصراع بين السعودية وقطر، على التموضع الأردني القلق، وجدوا أنفسهم مندفعين إلى القيام بشيء ما، لتلافي الأسوأ، لكن السعودية رفضت الفكرة و«غضبت منها».
مطبخ القرار الأردني، بدوره، رفض ضغوطاً سعودية لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة. ولفت مسؤول أردني، لم يذكر اسمه، في تصريحات صحافية، إلى أنه «حتى في حال إجماع مجلس التعاون الخليجي على موقف موحد من قطر، فإنه ليس ملزماً للأردن؛ لأنه ليس عضواً في المجلس».
على الصعيد نفسه، أبلغت عمان جهات سعودية وإماراتية أنها لن تتبع مصر والسعودية في قرارهما حظر جماعة الإخوان المسلمين، واعتبارها منظمة إرهابية، «طالما أنها تواصل الالتزام بالمنهج السلمي».