تحوّلت «صفقة القرن» إلى محطة مفصلية في أكثر من مسار إسرائيلي وفلسطيني وإقليمي، تندرج جميعها تحت عنوان جامع هو الصراع مع إسرائيل. وأياً تكن السيناريوات التي ستلي هذه المحطة، فهي تمثّل تتويجاً لمرحلة سابقة نجح فيها العدو في استدراج أنصار التسوية إلى الملعب الذي يملك فيه جميع الأوراق. كما تمثّل بداية لمرحلة جديدة يمتلك فيها المحوران المتقابلان العديد من عناصر القوة، ويواجهان في الوقت نفسه أكثر من نقطة ضعف. فالبيئة الإقليمية لفلسطين يتحرّك فيها مساران متضادّان: أحدهما يتعامل مع القضية الفلسطينية على أنها عبء، ويجهد في تمهيد الطريق للانتقال إلى مرحلة التحالف العلني مع العدو على قاعدة المصالح المشتركة؛ والآخر يرى في تحرير فلسطين واجباً لا يمكن للمنطقة أن تشهد النهوض من دون إتمامه.لا جدال في أن «صفقة القرن» تنطوي على أبعاد متعدّدة، متصلة باللحظة السياسية والاستراتيجية، والسياق التاريخي، وموازين القوى، والخلفيات الأيديولوجية، وغيرها من العناوين ذات الصلة. وفي هذا الإطار، يحضر الخيط الذي يربط الصفقة بـ«وعد بلفور»، الذي هدف إلى منح الصهاينة الحق في إقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها. منذ اللحظات الأولى، برز الوجود السكاني الفلسطيني عقبة أمام تنفيذ المشروع الاستعماري - الصهيوني. ولم يكن القادة الصهاينة ليغفلوا عن هذه المسألة، فتدرّجوا في التعامل معها بما يتناسب مع المرحلة التي وسمت استراتيجيتهم. وهو ما برز في مواقفهم، وأبرزهم منظّر التيار اليميني في الحركة الصهيونية، فلاديمير جابوتنسكي، الذي شرح، في مقالة له في عام 1923، مفهوم الجدار الحديدي، الذي شكل منطلقاً أساسياً لبلورة الأمن القومي الصهيوني في مرحلة ما قبل وما بعد إقامة الدولة. رأى جابوتنسكي أن العرب لن يقبلوا بالدولة اليهودية على أرض فلسطين إلا إذا تمّ فرضه ذلك بالقوة، وكي يسلّم الفلسطينيون والعرب بالمشروع الصهيوني ينبغي أن يشعروا بأنهم يواجهون جداراً حديدياً.
في المحطات التأسيسية، عمد الاحتلال البريطاني إلى سحق مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الاستيطاني التوسّعي. ثمّ، عندما أراد الصهاينة الانتقال إلى مرحلة إقامة الدولة، عمدوا إلى تهجير الشعب الفلسطيني بهدف تفريغ أرض فلسطين من شعبها، واستبداله بالمستوطنين القادمين بدوافع وعوامل مختلفة. بقي الإنسان الفلسطيني على المهداف الصهيوني طوال العقود اللاحقة، فلاحقته المخططات الأميركية والإسرائيلية في أكثر من ساحة عربية وداخل فلسطين. في مرحلة التوسع اللاحقة عام 1967، درس الصهاينة مجدداً سبل مواجهة العقبة التي يمثّلها الوجود السكاني الفلسطيني، كما ظهر ذلك جلياً في الوثائق التي سُمح بنشرها حول حرب العام 67. واستمرّ حضور الوجود الفلسطيني في كلّ المشاريع التسووية التالية، وصولاً إلى «اتفاق أوسلو»، حيث شكلت الخارطة الديموغرافية معياراً أساسياً في تقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلى مناطق (أ) حيث الكثافة السكانية الفلسطينية، ومناطق (ب) حيث الكثافة أقلّ، ومناطق (ج) حيث الكثافة الأقلّ التي تتيح زرع المستوطنات هناك.
بالمقارنة بين محطّتين، يلاحظ أنه بعد قرار التقسيم في العام 1947، كان حلّ الحركة الصهيونية للمشكلة التي يمثلها الوجود السكاني الفلسطيني يتمثل في سياسة المجازر المدروسة والهادفة إلى التهجير. أما في الظروف السياسية الحالية، فإن الحلّ الذي اقترحته «صفقة القرن» هو تحويل التجمعات الفلسطينية إلى غيتوات. لكن من الواضح أن ذلك جزء من سياسة تضييق تهدف إلى إفراغ هذه المناطق من سكانها، على أمل أن تتمكن الحركة الصهيونية، لاحقاً، من تحقيق طموحاتها على مستوى الضفة بأكملها. في المقابل، فإن إسقاط الصفقة مشروط بصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، كما هو تاريخه على الدوام. وبشكل مواز، يتصارع في المنطقة محوران، أحدهما يجهد لإنتاج بيئة تُطبِّع مع الاحتلال، وتضغط على الشعب الفلسطيني للتسليم به. والثاني، يجهد لإسقاط هذه المحاولات، ولبلورة عمق استراتيجي يستند إليه الشعب الفلسطيني.