تحلّ الذكرى السنوية الـ41 لانتصار الثورة الإسلامية في إيران بالتزامن مع إعلان «صفقة القرن». تزامنٌ يمثّل مناسبة للتوقّف عند مفاعيل تبلور موازين قوى إقليمية مغايرة كلّياً لما سعت إليه الولايات المتحدة، وتطور معادلات الصراع مع إسرائيل بعد عقود من إقامة نظام الجمهورية الإسلامية، على مسألة مواجهة الصفقة وآفاق المعركة مع العدو.كان يُفترض أن تؤدي «اتفاقية كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل عام 1978 إلى سقوط المنطقة بأكملها تحت هيمنة النفوذ الأميركي، وأن يبلغ التوسّع الإسرائيلي بفعلها ذروته تتويجاً لاجتياح عام 1982. وما جعل هذه الأهداف (الأميركية والإسرائيلية) أكثر قابلية للتحقق في حينه، هو التغيّر الجذري في موازين القوى الإقليمية نتيجة خروج مصر من دائرة الصراع، والذي أملت واشنطن وتل أبيب أن تمتدّ مفاعيله إلى عقود لاحقة. بحسب ما كان مخطّطاً، هَدَفَ الاجتياح الاسرائيلي للبنان إلى تدمير البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية وإخراجها من هذا البلد، وتحقيق أطماع إسرائيل التوسّعية فيه عبر احتلالها أجزاء واسعة منه، وفرض الحلول «التصفوية» على الشعب الفلسطيني. لكن ما حصل عملياً أن التأسيس للمسار المتقدّم قابله انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وانطلاق مقاومة في لبنان أدت إلى احتواء الاندفاعة الإسرائيلية – الأميركية وتغيير معادلات الصراع في المنطقة. في الموازاة، انتقل الكفاح الفلسطيني إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي أربك الحسابات الإسرائيلية وعزّز حضور الشعب الفلسطيني في المعادلات الإقليمية. في مراحل لاحقة، شهدت الساحتان الدولية والإقليمية تحولات مفصلية أيضاً، على رأسها انهيار الاتحاد السوفياتي وتدمير العراق عام 1991، واللذان كان لهما موقعهما الرئيسي في تقديرات تل أبيب وواشنطن وخططهما لفرض الحلول التسووية على شعوب المنطقة، وهو ما تجلّى في حينه في «مؤتمر مدريد» عام 1991. في المقابل، برز دور إيران والمقاومة، إلى جانب سوريا، في مواجهة تلك الانعكاسات، الأمر الذي حال دون تحقّق كامل الأهداف الأميركية. والأمر نفسه انسحب أيضاً على مواجهة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وعلى مواجهة التهديد التكفيري.
«صفقة القرن» ستتحوّل إلى هزيمة إضافية للمحور الأميركي - الإسرائيلي


في الموازاة، واجهت إيران ضغوطاً وإغراءات هدفت إلى دفعها للتخلّي عن دعم المقاومة وعن ثوابتها في ما يتعلق بقضية فلسطين، لكنها بقيت متمسّكة بخياراتها. لقد امتدّت نتائج انتصار الثورة الإسلامية في إيران إلى إحداث ثورة جذرية في معادلات الصراع مع إسرائيل، وهو ما لم يكن ليحدث لولا المواقف الحاسمة للإمام الخميني، ومن بعده السيد علي خامنئي، من قضية فلسطين منذ ستينيات القرن الماضي. مواقف يؤكد ثباتُها، منذ انطلاق الثورة وصولاً إلى اليوم، أنها لم تنبع من ظروف سياسية مستجدّة، بل لها منطلقاتها المتصلة بفكر الثورة ونظامها. وعلى هذه الخلفية، كان تأكيد خامنئي ثبات الموقف من فلسطين في أكثر من مناسبة، ومن ضمنه ما أورده حرفياً في الـ27 من شهر شباط من العام 2010 حيث قال «إن دعمنا لفلسطين ليس تكتيكياً، ولا استراتيجياً سياسياً، بل مسألة عقيدة، قضية قلب، وقضية إيمان»، وهو ما لا يتعارض مع كون هذا الدعم تترتّب عليه تبعات استراتيجية وسياسية في أكثر من ساحة ومحطة. وفي السياق نفسه، شدّد خامنئي على أن «قضية فلسطين ليست مسألة جغرافيا... بل قضية الإنسانية، وهي المعيار المُحدِّد للالتزام بالأصول الإنسانية وعداوة الأصول الإنسانية».
لم يكن صمود إيران في مواجهة الضغوط الدولية المتصاعدة عليها أمراً مسلّماً به، بل نتج عن توافر عناصر الإرادة والقدرة التي مكَّنتها وحلفاءها في المنطقة من إسقاط المخططات الأميركية المتوالية. فإلى جانب الثبات الذي اتّسمت به مواقفها الاستراتيجية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية، قطعت إيران أشواطاً مهمّة في التنمية الاقتصادية، بما مكّنها من الصمود في مواجهة أشدّ العقوبات في التاريخ، بحسب تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خاصة بعدما تراجع تصدير نفطها من قرابة 3 ملايين برميل يومياً إلى بضعة مئات آلاف. هذه الإنجازات استطاعت من خلالها إيران كسب معركة الرأي العام، الأمر الذي انعكس في التفاف الأغلبية الساحقة من الشعب حول النظام الإسلامي، على رغم كلّ الأثمان التي يدفعها. كذلك، ما كانت إيران لتصمد في مواجهة الضغوط الخارجية لولا نجاحها أيضاً في تطوير قدراتها الردعية في مقابل الأخطار الخارجية، وهو ما تجلّى أخيراً في القصف الصاروخي الذي استهدف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق.
بناءً على كلّ تلك المعطيات، وبالمقارنة مع إنجازات المقاومة وقدراتها طوال العقود السابقة، وبالنظر إلى تعاظم قدرات محورها اليوم وانتقاله إلى مرحلة إخراج الجيش الأميركي من المنطقة، يمكن القول إن «صفقة القرن» ستتحوّل إلى هزيمة إضافية للمحور الأميركي - الإسرائيلي، ومدخل إلى مرحلة جديدة من عمر القضية الفلسطينية، مقرونة هذه المرة بتبدّد الرهان على وهم التسوية الذي انطلق مع «أوسلو» في العام 1993. وإذا كان انتصار الثورة في إيران قد أسّس لمنع إخضاع المنطقة للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، فإن تعاظم محور المقاومة سيؤدي بالضرورة إلى إسقاط «صفقة القرن». ولعلّ من سوء حظ كيان العدو أن طرح الصفقة أتى بعدما نجحت إيران، ومعها سائر أطراف محور المقاومة، في تحقيق سلسلة انتصارات استراتيجية أسّست لواقع إقليمي مَكّنها من الانتقال إلى مرحلة التحرير الكبرى.