ليست مصادفة أن تولدَ ميلاد وليد دقة بعد أيام من أسبوع حافل بالذلّ على الشاشات وما بين الأروقة. من «صفقة القرن» إلى «خطاب القرن»، أُشبِعَت حواسّ الشعب الفلسطيني انكساراً وخيبة نجرّها خلفنا ونخشى أن ننظر إليها. أراد العدوّ الإسرائيلي أن يُبلغ العالم ويبلغنا بإنجازاته، فهو الآن يفرض الشروط التي فرضها سابقاً بسياسات الأمر الواقع، فيما كانت القيادات الفلسطينية تسلّم أوراق شعبها في انتظار «الفرج» الأميركي. كلّ ذلك تغلّفه طبقاتٌ من العجز، المتوارث والمُستحدث، يحملها جيلٌ من الأسر في زنازين ضياع الهوية.لعقود خلت، خاض الشعب الفلسطيني حرباً وجوديّة تكاد توازي الحرب الاستعمارية المفروضة عليه. كان على هذا الشعب المُثقل بالتضحيات والتهجير والنبذ أن يصنع شخصيّته، وأن يسابق الزمن في استعادة هويّته وفرض شخصيّته على طريق الانتصار في حرب الوجود. لكن الهزيمة جرّت خلفها هزيمة، وبدلاً من تراكم الإنجازات، توارثت الأجيال الفلسطينية صورة الهزيمة التي «لم يعترف أحدٌ بها لكثرة الآباء»، كما قال أحمد مطر. وعوضاً عن النقد والتصحيح، تمّ جرُّ أجيال بأسرها إلى خانة البحث عن الفُتات في حقل «الممكن»، فتفشّت الفردانية وغُيّبت التضحيات، وفُتِحَت أبواب الجغرافيا والتاريخ والوعي أمام العدو تحت شعار «السلام». لم يعترف جيل الهزيمة بالهزيمة، فورث الجيل اللاحق ضياع البوصلة وتشوّه المفاهيم والشرخ الأعمق ما بين الرغبة والقدرة.
في ساعات، انقلبت حال الانكسار إلى سعادة فطرية ممزوجة بإحساس بالنصر


جاءت «أوسلو»، وما بعد «أوسلو»، وكان الإفراغ (المادي والفكري) المتعمّد لمخيّمات الشتات، ثمّ الاستيطان وتهشيم الجغرافيا ومحاصرة القدس... وصولاً إلى «صفقة القرن»، والذلّ المنبعث من ردود وشعارات ملّتها الآذان وتقيّأتها العقول. لكن الهزيمة ظلّت شاخصة، ووصلت إلى حدّ توسّل مسؤول فلسطيني الإبقاء على وظيفته في خدمة الاحتلال بتقديم «معلومات لن يحصل عليها (الأخير) بأيّ طريقة أخرى» (النكبة أنه موظف برتبة رئيس). ولعلّ تقبّل هذه المرحلة من الخضوع العلني، لأسباب متعدّدة، هو السمة الأبرز التي سكنت الكثير من أبناء هذا الجيل.
... في غضون ساعات، انقلبت حال الهمّ والانكسار والهزيمة المستترة إلى سعادة فطرية ينتابها بعض الإحساس بالنصر. أما الحدث، فهو ميلاد الطفلة ميلاد وليد دقّة. ميلاد ليست مجرّد نطفة مهرّبة، وهي ليست ثمرة زواج وليد وسناء فقط، بل هي النقطة الفاصلة بين زمنين: زمن الهزيمة وزمن الإرادة.
يقال إن لنهضة شعب ما شروطاً أبرزها الغاية والإرادة والعمل، وإن فقدان أيّ من هذه الشروط هو كسر لمسار النهوض، ما يعني تلقائياً الانحدار نحو الخضوع والشتات. أما ميلاد، فهي النموذج البشري المصغّر لتكامل شروط النهضة الفلسطينية. فهي الغاية التي أنشدها وليد وسناء، وقد جمعت الحبّ بمقاومة السجّان والانتصار على القيود (الحبّ والنصر كانا الغاية). أما الإرادة، فهي تشكّل السلاح الذي يبدّد حدود «الممكن» و«المستحيل» التي يزرعها الاستعمار كبذورٍ للهزيمة. الإرادة كانت مغزى قول جيفارا الشهير: «فلنكن واقعيين ونطالب بالمستحيل». وهي الإرادة نفسها التي دفعت وليد إلى تحدّي الاحتلال بولادة ميلاد «على الورق»، وتكوينها على هيئة كلمات قرأتها عيون الظالم قبل المظلوم، كأنّ الأسير الحرّ في نفسه كان يعلن معركته للعالم كاسراً بذلك قيود الشكّ والخوف والانهزام. أما العمل، فهو باختصار سنوات الصمود والمثابرة والثبات على الموقف، وقبل كلّ ذلك هو الجهد الذي بذله وليد وسناء لهزيمة الهزيمة، ولتثبيت إرادة الانتصار، وللإيمان بميلاد، من الكلمة إلى الطفلة.
ميلاد وليد دقّة هي العنوان الأبز للانتقال إلى الزمن الجديد. زمنٌ سيثمر أجيالاً تتغذّى على صورة ميلاد، صورة الانتصار والصمود والإرادة. أجيالٌ لا بدّ أن ننزع عنها ثوب الهزيمة الرثّ، لتكبرَ بإرادة النصر القادم بالعمل، وبالإيمان بالعمل. غداً، ستكبر ميلاد، ولعلّها ستكون يوماً «جود»، بطل رواية «سرّ الزيت»، الذي حين سأله والده عمّا ينوي فعله بالعلم الذي اكتسبه، أجاب: «علشان نحرّر أقدم أسير عربي: المستقبل يابا». ميلاد هي رسالة وليد وسناء إلى المستقبل، وعهدنا أن نصونها لنحقّق النصر في فلسطين، وطن المستقبل الذي نُريد.

* كاتب فلسطيني