من دون إعلان رسمي، باتت القوات السودانية خارج الحرب التي يشنّها التحالف السعودي ــــ الإماراتي على اليمن، بعد انسحاب شبه كامل لعديدها. أول من أمس، أعلن المتحدث باسم قوات «الدعم السريع»، العميد جمال جمعة آدم، أنه تمّ اتخاذ قرار تقليص تعداد العسكريين السودانيين في اليمن من 5 آلاف إلى 657 جندياً، من دون أن يحدّد مهمّة الجنود المتبقّين أو أماكن تموضعهم، فيما تفيد بعض الأنباء بنقل الإمارات جزءاً من القوات المنسحبة إلى ليبيا للقتال هناك. بقاء هذا العدد اليسير فقط من القوة السودانية في اليمن يعني، عملياً، الخروج من الحرب كقوة فاعلة وحاضرة ومؤثرة في القتال، والإبقاء على وجود رمزي، وهو ما يثير تساؤلات حول الموقف السعودي من ذلك الإعلان، الذي جاء هادئاً ومتدرّجاً وساعياً في عدم إثارة غضب «التحالف». لكن ما يُشار إليه هنا هو أن ثمة مجموعات سودانية مجنّدة من خارج القوات التابعة للحكومة، ولا يعرف حجمها وطبيعة مهماتها، وهي يمكن أن تعود للانخراط في القتال في حال تَجدّد المعارك في اليمن.وسبق أن أعلن رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أثناء عودته من زيارة واشنطن، تقليص عدد عسكريّي بلاده العاملين في اليمن من 15 ألفاً إلى 5 آلاف، تزامناً مع مضيّ الإمارات في تقليص وجودها هناك. وأكد حمدوك آنذاك عزمه على سحب جميع قوات بلاده في اليمن، واصفاً انخراط السودان في الأزمة اليمنية بأنه إرث تركه نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير. تلك كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول سوداني بطريقة إشكالية عن مشاركة الخرطوم في الحرب. قبل ذلك، لم تحسم القيادة السياسية والعسكرية (السابقة والحالية) في السودان الهدف من مشاركتها. فقد زعم نظام عمر البشير، ابتداءً، أن قواته تشارك في إطار «الدفاع عن الحرمين الشريفين»! وبعد سقوط هذه الذريعة، انتقل إلى أخرى هي «مقتضيات الأمن القومي واتفاقيات الدفاع العربي المشترك». ارتباكٌ انسحب أيضاً على الأعداد الحقيقية للقوات البرية المشاركة، إلى أن أُعلن في العام الماضي أنها تقارب 15 ألفاً.
وكشفت صنعاء، في أكثر من مرة، عن سهولة إيقاع أعداد كبيرة من القتلى السودانيين نتيجة غياب الحافزية لديهم وجهلهم بطبيعة الأرض، فضلاً عن بقاء جثثهم في جبهات القتال من دون أن تسمح القوات السعودية بسحبهم. كما كشفت تقارير صحافية عن تأخر الجيش السوداني في إخطار ذوي القتلى بمصير أبنائهم، والتكتّم على أعدادهم الحقيقية، فضلاً عن معاناة أهالي الأسرى في رحلة التعرّف إلى مصير أبنائهم، والتي كانوا يتواصلون خلالها مع أقربائهم في السعودية، أو ينخرطون في مجموعات يستخدمها العسكريون السودانيون في اليمن، أو يتابعون الوسائل الإعلامية اليمنية التي تديرها حركة «أنصار الله».
ثمة مجموعات سودانية مجنّدة من خارج القوات التابعة للحكومة يمكن أن تعود للقتال


ولم يكن النظام الجديد أفضل حالاً من سابقه، لناحية اختلاق الحجج لزجّ جيش البلاد في مشاريع السعودية والإمارات. ففي نيسان/ أبريل الماضي، أعلن «المجلس العسكري الانتقالي» (قبل حلّه)، للمرة الأولى، أن القوات السودانية «ستبقى في اليمن حتى يحقق التحالف أهدافه». وهو ما يُعزى، في جزء منه، إلى الدعم الاقتصادي الخليجي للمجلس، والذي أكّدته عدة تقارير، من بينها ما ورد في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية التي قالت إن السعودية والإمارات تعهّدتا بعد 9 أيام من إسقاط عمر البشير بتحويل 500 مليون دولار إلى البنك المركزي السوداني لتعزيز احتياطيات العملة الأجنبية المستنزفة. ووفقاً لتلك التقارير، فإن نائب رئيس المجلس (آنذاك)، محمد حمدان دقلو، قام بدور رئيسي، سواء زمن النظام السابق أو الحالي، في الزّج بقوات بلاده في الحرب. دقلو، المُلقّب بـ«حميدتي»، هو من أكثر الشخصيات وضوحاً في التعبير عن مشاركة بلاده، وذلك من خلال الإطلالات الإعلامية التي كان يرفقها بلازمته المتكررة وهي: «إننا متمسكون بالتزاماتنا تجاه التحالف، وستبقى قواتنا حتى يحقق التحالف أهدافه»، وإن السودان «شريك رئيسي» في الحرب.
يتناول أشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في مذكّراته، الخلل البنيوي في جيوش مجلس التعاون الخليجي، ومن وجوهه اعتمادها على الجيش السوداني، الذي يصفه كارتر بـ«الجيش المرتزق»، ما يشير إلى قصورها الفاضح في مواجهة التهديدات المحيطة بها من أكثر من اتجاه. ويستذكر كارتر محادثة بينه وبين أحد أعضاء الكونغرس الذي كان قد وصل للتوّ من اجتماع مع دبلوماسي خليجي ادّعى فيه الأخير أن هناك جيشاً «سنياً» من 70 ألف جندي، وأن هؤلاء مستعدون للعبور نحو العراق وسوريا وهزيمة «داعش». يقول كارتر: «سألني عضو الكونغرس لِمَ لم أقبل العرض؟ فأجبته: هل قال لك إن 60 ألفاً من هؤلاء هم سودانيون؟».
يقال إن «الارتزاق» من الحرب في اليمن كان يُكسّب الشباب السوداني المجنّد في ستة أشهر أكثر مما قد يُكسّبه أيّ أحد طوال عمره. الإعلان السوداني الجديد يُعدّ مؤشراً إلى توازنات جديدة في قوى السلطة في السودان، وإلى تحوّل في مسار الحرب في اليمن، لكنه، للأسف، ليس مؤشراً كافياً إلى نهاية ظاهرة «الارتزاق» التي قد تتجدّد في أماكن أخرى.