حسان سلايمة كلما كابد القناص للوصول الى طريدته، كانت نشوة تلك اللذة أشد ضراوة وأكثر امتلاءً … تماما كما الطاغية. لحظة القناص هي لحظة كمون وتوقف كامل عن الحركة، يكتم القاتل أنفاسه، كأنما يتهيأ للانتقال الى مكان أكثر سطوة. مكان يستطيع المباغتة منه دائما، يستطيع احتواءه بحجره وبشره وحيواناته، ولهذا يتسلى القناص في اصطياد القطط والكلاب حين لا يجد بشريا يملأ حس الغطرسة فيه، أنه يربي الموت كما يربي الفقراء الأمل.
فالبشر بالنسبة الى هذا القناص، مجرد هدف، أو رقم فائض عن الحاجة. وغالبا ما تتعدد الأهداف والأرقام بتعدد الغايات، ثم تغدو اللعبة مع التكرار، ممارسة للقتل من أجل القتل. قد لا يكون مخيم اليرموك ساحة مثالية أو ملعبا واسعا لتلك اللعبة، لكنه بالتأكيد من الساحات التي لا تهتز لفقدان الضحايا فيها سوى أرواح من يحبونهم طبعا. وقد يكون الموت قنصاً، أخف وطأة من الموت جوعا بعد ألم طويل.

فالموت جوعا ليس مجرد تتويج ليأس عميق، بل هو إفراغ كامل لإنسانية الجسد البشري، سحق لمعنى الحياة في أوصاله، ليكون عبرة ذعر دائم ممن يفكر في مشروع آخر لا يتفق مع هدف القناص أو مالكه الطاغي.
«شعار الجوع ولا الركوع» اختبره الفلسطيني في وجه المحتل الاسرائيلي، لكن في مخيم اليرموك؟ هو عقاب جماعي يفرضه معنى الفلسطيني الذي بدا بحاجة دائمة إلى تقديم اعتذار بدمه عن وجوده في محيط أنظمة لا تريده أكثر من راث أو مرثي في أحسن حالاته. فمعناه الذي تجاوز بطاقته الشخصية في دفاعه عن مفاهيم العدالة والحرية والحياة، حوله إلى رمزية تقترب من الأسطوره. وسعيا إلى سحب البساط من تحت هذه الرمزية، جعلوه بطلا دائما في ثوب ضحية: لا بد من دمها لترسيخ الأيقونة. لأن التضحية من أهم أسس بقائها، في استلاب واضح لطبيعته كإنسان يخاف ويحب ويحلم ولا يحب الموت.
لكن البطل خرج عن السيطرة عندما غدا وجوده انتماء لا تقوله بطاقته الشخصية، بل مخيلة نضالية طويلة لا يمكن طحنها وهزمها كفكرة. من هنا يمكن أن تجد عربيا فيه من فلسطين أكثر من حامل البطاقة الفلسطينية. وقد تلازم هذا المعنى لدى الشباب الفلسطيني في اليرموك مع ما يحدث في سوريا، فرأى أن الأمر يخصه ويصب في شؤونه برغم اختلاف الشعارات.
فموته الآن جوعا، يعبر عن حال فصائله الوطنية كلها، بمختلف توجهاتها، ويعبر ايضا عن عجزها عن حمايته وصون ما تأسس في كينونته ودلالة هذه الكينونة. لذلك ستكون الخسارة كبيرة، وتداعياتها أكبر إذا استمر الوضع. وفي كل الحالات لا أحد يمكنه عزل الفلسطيني عن مسارات أمكنته وذاكرتها، ولا تهم الشباب الصغير هناك المعادلات الاقليمية والدولية، حسبه فقط أن يختزل القضية بالقول «مخيمنا خيا غصباً عن الكل»!
بمثل هذه العبارة التي تتضمن حبا عارما حيال المخيم، يصبح معه جسر عودته هذا هو الظل الأول وربما الوطن الثاني بما تحمله الكلمة من معنى. ونهاية، قد تدخل أو لا تدخل الأطعمة إلى المخيم، لكن قوننة المسألة بحسابات هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك لن تحل الموضوع مهما تكالبت الأطراف لتطويعه وإخضاعه. فلحظة القناص كما لحظة الطاغية لا تحفل إلا بذاتها، ولا تعمل إلا من أجل اشباع نهمها بالحضور، وفي الحالتين يُهدر دم الفلسطيني لتوكيد لذة المنتصر ولو حتى حين.