فاجأ الرئيس التركي خصومه في شرقي المتوسط وشمال أفريقيا والجزيرة العربية مرّتين: الأولى؛ حين أبرم، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اتفاقين مع حكومة فايز السراج في ليبيا، والمعترف بها دولياً. والثانية؛ بعد شهر بالضبط، بزيارة تونس، الدولة المجاورة لليبيا. أظهر الحدثان أن إردوغان يملك زمام المبادرة، ولديه خطة محدّدة وصورة واضحة لما يريده في صراع الغاز والنفوذ في شرقي المتوسط والعالم العربي، بل أكثر من ذلك، هو يعد بمفاجآت جديدة ليست في الحسبان، بمعزل عن مآلات هذا التحرّك.قبل أيام، كان إردوغان يعلن أنه سيقارب الوضع في ليبيا من خلال التعامل مع «الشرعية» الموجودة فيها، على رغم أن الأخيرة لا تسيطر سوى على العاصمة وساحل سرت ــــ مصراطة. وقال إنه في حال تلقّيه طلباً من حكومة السراج لتقديم المساعدة العسكرية، فالدولة التركية ستلبّي ذلك (أعلنت حكومة السراج أمس تقدّمها بطلب رسمي إلى أنقرة للحصول على دعم عسكري جوي وبري وبحري). وعلى هذا الأساس، يُنتظر من البرلمان التركي، حيث لإردوغان مع شريكه حزب «الحركة القومية» الغالبية المطلقة، أن ينعقد مطلع العام الجديد، لإقرار مذكّرة تجيز إرسال قوات إلى ليبيا على غرار المذكّرة الخاصة بسوريا والعراق.
زيارة تونس تأتي في ظلّ «عودة» الأخيرة إلى حضن «الإخوان المسلمين» بفوز حركة «النهضة» في الانتخابات النيابية، وتأليف حكومة جديدة مستقلة برئاسة مرشّحها الحبيب الجملي، وتولي راشد الغنوشي، زعيم الحركة، رئاسة البرلمان، على الرغم من أن الرئيس قيس سعيّد هو الذي يظهر في الواجهة. ماذا فعل إردوغان في تونس؟ تنقل صحيفة «يني شفق» عن مصادر رفيعة أن إردوغان طالب سعيّد بأن تتحرك تونس بطريقة لا تكون فيها شريكة أو داعمة لكلّ من مصر والإمارات في ليبيا، وألّا تقدّم أيّ دعم لحكومة اللواء خليفة حفتر. أما طلب العمل على وقف النار، فلا معنى له في ظلّ تأكيد إردوغان أنه سيرسل قريباً قوات إلى ليبيا. ووفقاً لمصادر «يني شفق»، فإن إردوغان طلب من سعيّد السماح للطائرات التركية باستخدام المجال الجوي التونسي، وذهب إلى طلب السماح للقوات التركية باستخدام مرفأ بحري وقاعدة عسكرية، وهو ما قد يرقى إلى مستوى «التحالف» بين البلدين. ولا يعرف بالضبط، عدا الحالة «الإخوانية» في تونس، ما هي العوامل التي شجّعت إردوغان على التجرّؤ على التقدّم بهذه المطالب العالية السقف. من المبكر التفكير بأن تونس المجاورة لليبيا يمكن أن توافق على أن تكون شريكة لبلد أجنبي مثل تركيا في تدخلٍ في شؤون بلد مجاور عربي مثل ليبيا، يمكن أن تكون عواقبه كارثية على تونس قبل أيّ أحد آخر. وبالفعل، أعلنت الرئاسة التونسية أنها لن تكون شريكة أو حليفة لتركيا، من دون أن تسمّيها، في مواجهة الوضع في ليبيا، في رسالة إلى حكومة الحبيب الجملي وحركة «النهضة».
إردوغان يكرّر في ليبيا ما فعله في سوريا


ما يلفت أيضاً هو أن إردوغان يكرّر في ليبيا ما فعله في سوريا. إذ اجتمع، خلال زيارته التونسية، وفقاً لبعض المعلومات، مع العديد من زعماء القبائل الليبية. وربّما، في ظلّ هذه الأجواء، تكون تركيا في صدد القيام بعمليات عسكرية جوية وبرّية على غرار تلك التي في شمال العراق. بطبيعة الحال، الصراعات الدولية لا تقاس بقوة القوانين الدولية أو الخطابات. فما أراده إردوغان من تعامل مع شرعية في ليبيا، كان غائباً كلياً من تعامل مع شرعية كانت ولا تزال موجودة في سوريا. وما يفعله مع زعماء القبائل في ليبيا هو التعامل مع قوى خارجة، في بعض المناطق، عن الشرعية، ومتمركزة على الحدود مع تشاد والسودان، أي على مقربة من مصر، تماماً كما كان يفعل ولا يزال في التعامل مع زعماء عشائر وتنظيمات سورية خارجة على شرعية الدولة. وهو بذلك يكرّر في ليبيا، وسط انتقادات له من جانب المعارضة التركية، ما فعله في سوريا والعراق لجهة التدخل في شؤون دولة أخرى والتورّط في ما لا يمكن التكهّن بنتائجه. نجحت تركيا في توقيع أول اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع بلد آخر هو ليبيا، وفي توقيع اتفاق عسكري مع حكومة السراج، لكن هذا سيدفع بخصوم تركيا في ليبيا، من السعودية والإمارات ومصر، وحتى روسيا من حيث المبدأ المؤيدة لحفتر، الى الاستعداد لـ«المعركة الكبرى» مع تركيا التي ستكون في وضع لا تحسد عليه، وخصوصاً أنها ليست بلداً محاذياً برياً لليبيا بخلاف ما هو عليه الأمر مع سوريا المجاورة جغرافياً لها.
لكن ما يلفت، للمرة الألف، أن تركيا لا تنطلق في تحركاتها الخارجية فقط من مصالح اقتصادية وأمنية، بل من منطلقات أيديولوجية لم تتخلَّ عنها منذ بدء «الربيع العربي»، وما رافقه من اتكاء على جماعات «الإخوان المسلمين»، الأمر الذي سبّب لها الكثير من المتاعب والهزائم، بل إن تركيا لا تزال تحمل راية «الميثاق الملّي» كعامل محدّد في سياساتها الخارجية، لتبرير الكثير من تحرّكاتها وتدخلاتها، وهو الميثاق الذي رسم عام 1920 حدود تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، ولحظ شمال سوريا والعراق وبعض جزر بحر إيجه والمتوسط ضمن هذه الحدود. وكم كان بارزاً أن ترى صحيفة «يني شفق» أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا هو كسر لـ«اتفاقية سيفر» (1920)، والتي قسّمت تركيا قبل أن تعيد «معاهدة لوزان» (1923) توحيدها. وهو ما يقع في السياق الذي وضعه الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، عندما قال مساء الثلاثاء الماضي: «إن الذي يعرف جيداً تاريخ الجمهوررية التركية يدرك أن الأمن القومي لتركيا يبدأ مما خلف (حدود) الميثاق الملّي». لذلك اعتبر الاتفاق التركي ــــ الليبي لترسيم الحدود البحرية كسراً للحزام الذي تريد اليونان وقبرص اليونانية فرضه على تركيا، لإبقاء الأخيرة «حبيسة» حدودها الراهنة. وقال قالين إن «تركيا إذ تسعى إلى حماية أمنها القومي، يتحتّم عليها توسيع هذا الحزام. وهذا ليس خياراً بل حتمية، ومن هنا، اهتمامنا بليبيا وسوريا وأفغانستان والقوقاز والبلقان وإيران. وهذا يوجب أن تكون تركيا قوية على طاولة المفاوضات وفي الميادين وفي كلّ الساحات». وإذا كان مبرراً لأي دولة أن تتحصّن خلف مصالحها القومية والحيوية للقيام حتى بـ«مغامرات»، فإن التدخل التركي المباشر من البوابة الليبية يتمّ هذه المرّة تحت لافتة «العثمانية الجديدة»، بقول إردوغان بعد عودته من تونس إن «ليبيا أمانة عثمانية»!