غلب الطابع المصلحي والسياسي التنافسي على تفسير مواقف وزير الأمن الإسرائيلي، نفتالي بينت، بالدعوة إلى تحويل سوريا إلى فيتنام بالنسبة إلى إيران، وهو تفسير يطابق شخصيته وخلفياته ومنطقه السياسي، خصوصاً أنه يُقدِّر أن وجوده في هذا المنصب مؤقت، ويحاول استغلاله لإثبات تمايزه عن سلفيه، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»). مع ذلك، تنطوي هذه الدعوة على أبعاد تندرج في سياق خيارات العدو الاستراتيجية المطروحة على طاولة مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، لمواجهة التهديد الإقليمي الذي يتبلور تصاعدياً في أعقاب فشل الرهان على مخطط استخدام التكفيريين كأداة تهدف إلى إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، ودمشق، ونقلها من معسكر المقاومة إلى المعسكر الغربي ـــ الأطلسي. كذلك، تأتي هذه الدعوة بعد فشل الرهان، حتى الآن، على العقوبات الأميركية القصوى في إسقاط طهران أو إخضاع نظامها الإسلامي. جاء موقف بينت قبل أيام، خلال مؤتمر صحيفة «ماكور ريشون»، في سياق الحديث عن التهديد الذي يمثّله دعم الجمهورية الإسلامية على الكيان الإسرائيلي، وفي مقابل ذلك دعا إلى ضرورة الانتقال «من الكبح إلى الهجوم. وإذا كنا حازمين فسنتمكن من إخراج قوات العدوان الإيرانية من سوريا». وإذ أضاف أن «لا شيء يبحثون عنه عند حدود دولة إسرائيل»، فقد توجّه إلى إيران قائلاً: «سوريا ستتحول إلى فيتنام لكم. وإذا لم تخرجوا، فستنزفون دماً، لأننا سنعمل من دون هوادة حتى تسحبوا قوات العدوان من سوريا». ليس مصادفة أن تتوجه أولويات تل أبيب نحو مواجهة ما تسميه التمركز العسكري الإيراني في سوريا، بالتزامن مع فشل الرهان على إسقاط الأسد. انطلق هذا الخيار من إدراك مبكر لما ترتّب على فشل الرهانات من وقائع جديدة والتأسيس لمعادلات قوة من نوع مختلف. هذا المفهوم وجّه قادة العدو إلى أولوية منع إعادة بناء وتطوير قدرات سوريا العسكرية والصاروخية، تحت شعار محاربة إيران في سوريا، وبهدف محاولة الاستفراد بها في ظل الظروف التي تشهدها.
مشكلة تل أبيب مع الجمهورية الإسلامية هي أنها ترمي بثقلها في دعم سوريا وقوى المقاومة في المنطقة، وهو ما أشار إليه بينت عبر هذا الموقف، إذ قال: «ليس سراً أنه توجد إيران التي تحاول ترسيخ حلقة نيران حول بلادنا، وقد رسختها في لبنان وتحاول ترسيخها في سوريا وغزة وأماكن أخرى». مرّت رهانات تل أبيب لمواجهة هذا الواقع المتبلور بمحطات عديدة منذ ما بعد التدخل الروسي. في البداية، راهنت على أن تؤدي اعتداءاتها إلى إحباط جهود إيران في دعم سوريا والتمركز الصاروخي، وعلى ثنيها عن مواصلة جهودها في هذا المجال وفشلت. وراهنت على دور روسي كابح لإيران، وفشلت أيضاً. وراهنت على الترويج لمقايضة خروج الولايات المتحدة مقابل خروج إيران وفشلت... وراهنت أخيراً على إخضاع إيران بعقوبات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفشلت.
من الخيارات البديلة توسيع نطاق الاعتداءات على الساحة السورية


في هذا المسار، من الطبيعي أن تعمد تل أبيب إلى دراسة واجتراح خيارات بديلة مضادة في ضوء المستجدات. ومن ضمن هذه الخيارات توسيع نطاق الاعتداءات على الساحة السورية الذي عُبّر عنه بتحويل سوريا إلى فيتنام، وهو ما يدعو إليه بينت. ويستند في ذلك، كما أوضح قبل أيام، إلى أن الوضع الداخلي لأطراف محور المقاومة، من حزب الله في لبنان وصولاً إلى إيران، يوفّر فرصة لإسرائيل من أجل الانقضاض ورفع مستوى الاعتداءات لهذا الهدف. القدر المتيقن هو أن ما تلفّظ به الوزير الإسرائيلي يندرج ضمن مروحة الخيارات النظرية المطروحة، ولن يكون مفاجئاً أن تكون داخل المؤسّستين السياسية والأمنية شخصيات تؤيد مثل هذا الخيار. لكن، يبدو واضحاً أن إدراك القيادة العليا السياسية والأمنية للمخاطر والقيود الكامنة في بعض هذه الخيارات هو الذي يُفسّر حتى الآن عدم انتقال كيان العدو إلى تبنّيها عملياً، لكونها ستؤدي إلى تفجير إقليمي واسع، وسيجبي منها أثماناً قد لا يطيقها، وتدفع إلى التدحرج نحو حرب واسعة. كل ذلك مع الإشارة إلى أنه عندما تضيق الخيارات ويرتفع معها منسوب المخاطرة والكلفة، تتعدد الطروحات وتنقسم المؤسسات بشكل حاد.
اللافت أنه في مقابل مواقف بينت، ومن ضمنها «فَتْنَمَة» سوريا، يسود توتر بينه وبين قيادة الجيش، كما كشفت صحيفة «هآرتس»، لأنه في بعض الأحيان سمع قادة الأجهزة الأمنية عن مواقفه قبل نشرها بوقت قصير، وفي أحيان أخرى، سمعوها لدى نشرها في وسائل الإعلام، ومن دون إعدادهم مسبقاً لها. ويقدر هؤلاء أن «هذه البيانات من شأنها أن تلحق ضرراً أمنياً، وكذلك التصريحات بشأن تغيير قواعد اللعبة»، وهو موقف سبق أن أطلقه إزاء الساحة السورية أيضاً. ويبدو أن منشأ هذا التباين أن الجهات المهنية تدرك خلفية بينت الدعائية، وأيضاً هي الأكثر معرفة بالأثمان وحدود قوة إسرائيل، التي إن تجاوزتها، فستكلفها الكثير، وهو بهذا المعنى خيار مكلف جداً إلى حد استبعاد أن تجرؤ مؤسسة القرار على خوض مغامرة كهذه. ولا يتعارض ذلك مع هامش مواصلة العدو اعتداءاته المضبوطة حتى الآن... بمعنى من المعاني الذي قد يتعارض إلى مستوى المواجهة المحدودة، الذي يؤكد بدوره القيود التي تحيط بصنّاع القرار في تل أبيب. في موازاة ذلك، بدأت تعلو الأصوات على مستوى الخبراء والمسؤولين الذين يُقرّون بأن هذه السياسة العدوانية لم تحقق المؤمل منها، وبدأت التقارير تتزايد في الحديث عن حجم القدرات الصاروخية التي اتسع نطاق انتشارها في الساحة السورية.