القاهرة | يضع مؤيّدو التحالف الحاكم في مصر حاليّاً في وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي، والمرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية القادمة، آمالاً عريضة لجهة تحقيق الاستقلال الوطني الكامل لمصر، ذلك الاستقلال الذي «أهدره نظام الرئيس السابق حسني مبارك عبر ثلاثة عقود من التحالف مع الغرب، وهدّده حكم جماعة الإخوان المسلمين «أصحاب التنظيم الدولي عملاء المصالح الإقليمية التركية والقطرية»، وفق رواية مؤيدي السيسي.
باختصار، «سيستعيد الجنرال الهادئ أمجاد الناصرية في الاستقلال الوطني وقيادة مصر للأمة العربية، ومواجهتها للنفوذ والمطامع الغربية، الأميركية تحديداً»، بحسب هؤلاء. مرة أخرى، نحن أمام محاولة لاستحياء التاريخ، من دون التمعن في ما يحمله هذا من مأساة وسخرية معاً. وبشكل ما تفتح زيارة المشير لروسيا الجدل مرة أخرى حول ملف الاستقلال الوطني للنظام الذي أتى على خلفية عزل الرئيس السابق محمد مرسي، والذي يُعبِّر عن عودة الدولة القديمة.
جاءت ثورة «30 يونيو»، ومن قبلها الثورات العربية، في إطار نظام دولي متغير، حيث يزداد التناقض بين قواه القديمة وقواه العظمى الصاعدة والقوى المتوسطة الباحثة لها عن دور في النظام العالمي الجديد، وأيضاً في إطار نظام إقليمي لا يقل تناقضاً بين أقطابه وقواه المؤثرة، وهي أساساً قوى النفط وتركيا. تجعل هذه المعطيات الفرصة سانحة لأي نظام ناشئ في دول الربيع أن يخفف من ضغوط القوى الكبرى عليه ومن تدخلاتها التي تنتقص من استقلاله في حال أحسن قراءة هذه التناقضات وأجاد استغلالها.
لقد بنى الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر نظامه الوطني وقيادته للحركة القومية في الخمسينيات والستينيات بقدرته على استغلال التناقض الدولي بين قطبي الحرب الباردة في الفترة ما بين حربي السويس 1956 والأيام الستة 1967 من ناحية، واستطاع أن يساهم في تأسيس حركة عالمثالثية (حركة عدم الانحياز) بلورت خطابه الاستقلالي من ناحية أخرى. بالطبع لم يفلح هذا التوازن المتعدد الأوجه الذي حاول أن يتحرك من خلاله في إبعاد الهزيمة عنه، غير أن تجربته تستحق أن تعتبر حال بناء استقلال وطني.
غابت قضية الاستقلال الوطني عن خطاب الثورة منذ بدايتها إلا قليلاً، وحالت الاضطرابات المستمرة طيلة الثلاثة أعوام ونيف دون أن تكون أولوية. غير أنها برزت باعتبارها جزءاً من خطاب الشرعية التي تؤسّسها ثورة «30 يونيو»، وهي طبقاً لأصحابها متناقضة في أحيان مع خطاب ثورة «25 يناير» ومتكاملة معه في أحيان أخرى.
وبتواتر الأحداث والمواجهات، أعاد خطاب أنصار السيسي تعريف مطالب الثورة بالسعي نحو محاربة «الإرهاب الذي تقوده جماعة الإخوان، واستكمال الاستقلال الوطني الذي أهدرته بعلاقاتها الخارجية». كان حكم «الإخوان» وفقاً لهؤلاء «جزءاً من مؤامرة دولية وإقليمية، وكل ما يحدث من اضطرابات هو ذيول للمؤامرة التي يحوكها التنظيم الدولي للإخوان». هنا تقدم ثورة «30 يونيو» على أنها إجهاض لهذه المؤامرة، وأن السيسي هو بطل الحركة المباركة الجديدة، وهو من يقف في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة المتحالفة مع جماعة الإخوان. أصبحت واشنطن في مرمى هجوم إعلام الدولة القديمة وحلفائها الذي صاحبته الدعوة إلى فك الارتباط العميق بها الذي تشكَّل عبر أربعة عقود منذ نظام أنور السادات.
تراهن واشنطن على من يستطيع من عملائها المختلفين فرض الاستقرار في مناطق نفوذها ومصالحها. وقد بنت سياستها الخارجية في المنطقة منذ الثورة الإيرانية على تنويع الوكالة. وقد برهن نظام 3 تموز على فشله الذريع في هذا الصدد، حتى الآن على الأقل، ولكي يتحرر من الضغوطات الأميركية راح يغازل خصوم الولايات المتحدة الساعين نحو نفوذ منافس لها في المنطقة، وعلى رأسهم روسيا. غير أن الأخيرة ليست في سخاء سلفها الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، وهي أكثر حذراً في خوض غمار الشرق الأوسط المضطرب. ويكفيها الدور الذي تقوم به في الأزمة السورية لدحر النفوذ الغربي وخفض فاعليته في حل الأزمات.
والأهم من ذلك أن موسكو على وعي بحدود الخطوة المصرية التي لا تعدو كونها مناورةً لمغازلة الولايات المتحدة، وأن القاهرة ستعود إلى علاقات كاملة الدفء مع واشنطن في حال استطاع النظام أن يفرض الاستقرار، وهو ما يعجز عنه في المدى القريب وربما المتوسط، باستمرار معركته مع «الإخوان».
استطاع عبد الناصر أن يبني دولة قادرة على فصل علاقتها بالاتحاد السوفياتي، حيث رأت موسكو أن عبد الناصر خرج عن تحالفاتها مع النظم اليسارية في المنطقة بإنشاء دولة الوحدة مع سوريا 1958ــ1961، أي إنه قبل أن يبني مشروعه التحرري على تناقضات النظام الدولي، وأسّس لدولة قوية البنية.
وهي نقطة الضعف التي لا يستطيع النظام الحالي التعامل معها أو حتى إدراكها، فالدول الفاشلة الرخوة المهترئة لا تصنع استقلالاً.
وحتى إن تحرر النظام الحالي من الضغوط الأميركية، فإنه قد أوقع نفسه تحت ضغوط إقليمية عربية سعودية ــ إماراتية بشكل خاص، حيث انفتحت خزائن النظاميْن المحافظيْن الأكثر عداءً للثورات وما جلبته من تغيرات فور تحرك الجيش لإنهاء حكم «الإخوان». واستطاعت المساعدات السخية أن تمنع الاقتصاد المترنح من الانهيار، وقد ارتبطت تلك المساعدات إلى حد كبير بحرب النظام الضروس على «الإخوان»، إذ إن هذين النظامين على خصومة فكرية مع «الإخوان» منذ ربع قرن.
تناول خطاب ثورة «30 يونيو» المساعدات الخليجية باعتبارها «عودة إلى مجد القومية العربية التي يحييها النظام السياسي المعادي للإمبريالية الجديدة والإخوان عملائها في الداخل». غير أن هذه القومية مدفوعة الأجر، والأخطر والأهم أنها معادية لبقية العرب بعنصرية مقيتة، لا تخفي حملات الكراهية التي نالت السوريين والفلسطينيين المقيمين في مصر، بل الشعبيْن على العموم، باعتبارهم حاملي اضطرابات من بلادهم المنكوبة وحلفاء طبيعيين للإخوان. هنا تختلط الرطانة الناصرية الفجة بالساداتية المعادية للعرب المنكوبين والمهللة لعرب البترول.
ويدرك عرب البترول أن مساعداتهم للنظام الحالي، وما صاحبها من جهود دبلوماسية لترويجه لدى الغرب، لن تحافظ على النظام ما لم يثبت قواعده في الداخل. وهذه هي الضمانة الوحيدة القادرة على توفير موارد للاستقلال الوطني وربما القيادة القومية.
ومن هنا تتخوف هذه الدول من أن يصبح السيسي كعبد الناصر الذي تحالف مع السعودية في بداية عهده، ثم سرعان ما بشّر بقومية ثورية كان من شأنها أن تقوّض عروشها وعروش النظم المحافظة آنذاك، ما يعني أن هذه الدول ستكون حريصة كل الحرص على ألا يتحول دعمها للنظام المصري أساساً ماديّاً لقيام نظام قوي يحاربها على النفوذ في المنطقة الذي بنته في أعقاب حرب تشرين وفورة النفط. غير أن الواقع ينبئنا بأن السيسي ونظامه يفتقدان الكثير من الموارد التي يمكن أن تجعل منه ناصراً جديداً.




أسوأ قرارات أميركا

لم تعد الولايات المتحدة هي صاحبة اليد العليا في الشرق الأوسط منذ قرارها الكارثي بالحرب على الإرهاب واحتلال العراق. أصيبت سياستها بالتخبّط وفقدان البوصلة عقب الموجة الأولى من الثورات العربية، ولم تفلح في بناء سياسة صلبة تجاه بقية موجة الثورات المتتالية التي شكلتها حروب ونزاعات وانقلابات، فضلاً عن أن العقدين الأخيرين شهدا تقلصاً في قوتها لمصلحة قوى صاعدة منافسة لها أو متحالفة معها.
كان قرار واشنطن الأسوأ منذ الثورات هو تعويلها على قدرة «الإخوان» على تحقيق الاستقرار في مصر، واقتنعت بلعبة ديموقراطية الانتخابات التي تجيدها الجماعة، ولم ترَ تناقضات الجماعة الطائفية مع قوى الدولة القديمة والمجتمع القديم، فانهار أملها بتحقيق الاستقرار مع عزل مرسي وإنهاء حكم الجماعة.
على كل، يتعامل خطاب النظام الحالي، خاصة عبر أبواقه الإعلامية، مع التعثر الأميركي باعتباره جزءاً من المؤامرة العالمية ضد استقلال مصر. يكرر هذا الخطاب أصداء الشعبوية الناصرية ولكن ببؤس يجعله غير قادر على إدراك حجم التناقضات الداخلية التي تعرقل قدرة واشنطن على اتخاذ قرارات حاسمة أو بناء سياسة واضحة إزاء ما يحدث في الشرق الأوسط. ويمكن القول إن التعثر الأميركي منح النظام الحالي قدرة أكبر على المناورة.