في أيلول الماضي، وبعد شهور من التحقيقات، اعتقلت السلطات الألمانية مواطنة من أصول تونسية، اسمها أميمة عبدي. اتضح أن عبدي أرملة اثنين من مقاتلي تنظيم «داعش»، هما: التونسي نادر الحضرة، ثم مغني الراب الألماني دينيس كوسبرت، الذي اشتُهر باسم «أبو طلحة الألماني». كانت عبدي قد تزوجت الألماني بعد مقتل زوجها الأول، ليُقتل الثاني بدوره في عام 2018. المثير في اعتقال عبدي أنها كانت قد تمكنت من العودة إلى ألمانيا، والانخراط في حياة طبيعية، قبل أن توقعها المصادفات في قبضة الأجهزة الألمانية. تحولت الحادثة إلى مناسبة لإعادة البحث في مصائر «الجهاديين» الألمان، ولا سيما أن هؤلاء كانوا قد شكّلوا في فترة من الفترات مجموعة تنظيمية خاصة بهم، تعمل تحت راية تنظيم «داعش» المتطرف، وتحمل اسم «Lohberger Brigade». بين أيلول/ سبتمبر واليوم، تضاعفت المخاوف أكثر فأكثر، لا في ألمانيا فحسب، بل في عموم أوروبا.
أوروبا المتفرجة!
لم يكن تفاقم المخاوف نابعاً من فراغ. ثمة أحداث متتالية دارت على المسرح السوري، أسهمت في إعادة ملف «الجهاديين» الأوروبيين إلى طاولة البحث، بعدما غُضّ النظر عنه شهوراً طويلة. جاء الفصل الأخير من فصول الغزو التركي على رأس الأحداث التي أذكت المخاوف الأوروبية، وهو في الوقت نفسه قدم دليلاً على تراجع التأثير الأوروبي في مسارات الحدث السوري إلى أدنى درجاته، ليبدو أن دول الاتحاد باتت أشبه بمتفرج يراقب بقلق أداء اللاعبين الفاعلين، ولا سيما الولايات المتحدة وروسيا وأنقرة.
المفارقة أن أوروبا وجدت نفسها عرضة للابتزاز بين عدوّين لدودين، هما أنقرة و«قوات سوريا الديموقراطية». وبات محسوماً أن عدداً ليس بقليل من «الجهاديين» استطاعوا التسلّل من مناطق سيطرة «قسد» في خلال الشهرين الأخيرين، الأمر الذي ينطبق على عائلات بعضهم، فيما أعلنت تركيا أخيراً أنها «بدأت ترحيل الجهاديين الأجانب». وقال المتحدث باسم الداخلية التركية إن «إجراءات ترحيل 11 مواطناً فرنسياً وسبعة ألمان إلى جانب آخرين من الدنمارك وإيرلندا جارية». ومن المقرر، وفقاً للمتحدث، إعادة المواطنين الألمان اليوم الخميس. وعلاوة على تسابق أنقرة و«قسد» على التلويح بورقة «الجهاديين» في وجه أوروبا، جاء مقتل الزعيم السابق لتنظيم «داعش»، أبو بكر البغدادي، ليعطي دفعاً جديداً لنشاط «الذئاب المنفردة» تحت راية التنظيم المتطرف، وخاصة في ظلّ اقتراب موعد الإفراج عن «جهاديين» معتقلين في السجون الأوروبية (راجع «الأخبار» 7 تشرين الثاني2019).

إجراءات منفردة؟
وسط تزايد التحدّيات، يبدو أن بعض الدول الأوروبية وصلت إلى نتيجة مفادها أن أفضل الحلول المتاحة العمل على استعادة «الجهاديين» وعائلاتهم بشكل رسمي ومحاكمتهم. لم تكن هذه النتيجة مفاجئة، بل جاءت مطابقة لتوقعات كثير من المتابعين، بمن فيهم دبلوماسيون أوروبيون. قبل شهور، كان دبلوماسي أوروبي، يعمل في بيروت، يقرّ في جلسة غير رسمية بأن «سياسات أوروبا في الملف السوري تمرّ في حالة تخبط كبيرة». الدبلوماسي، الذي شدّد وقتذاك على أن هذا ليس موقفاً رسمياً بل مجرد رأي شخصي، قال إن «الحل الأفضل لملف الجهاديين هو دعم تفاهم بين (الرئيس السوري بشار) الأسد وأكراد الإدارة (الذاتية)، ما يدعم إمكانية التنسيق معهما في ملف الجهاديين، لإيجاد آلية في إطار القوانين الدولية». وأضاف: «في نهاية المطاف، سنجدهم (الجهاديين) قد عادوا إلينا، الأفضل ألا يحدث ذلك بصورة اعتباطية».
يظهر أنّ دولاً أوروبيّة ستجد نفسها مضطرّة إلى التحرّك منفردة لضمان السيطرة على ملفّ «العائدين»


وعلى رغم وجود آراء كثيرة تطابق رأي المصدر، إلا أن إقدام الاتحاد الأوروبي على فتح خطوط تنسيق علنية مع دمشق لا يبدو خياراً متاحاً في الفترة القريبة المقبلة، مع أنه قد يتحول إلى «خطوة لا بد منها» في العام المقبل. وحتى ذلك الوقت، يظهر أن بعض الدول الأوروبية ستجد نفسها مضطرة إلى التحرك منفردة (بمعزل عن الاتحاد) لضمان حدّ أدنى من السيطرة على ملف «العائدين». ويوم الاثنين الماضي، قالت محكمة هولندية إنه ينبغي على الحكومة السعي إلى إعادة الأطفال الهولنديين الذين سافرت أمهاتهم إلى سوريا للانضمام إلى «الجهاديين». وقرّرت المحكمة، في قضية رفعها محامون نيابة عن 23 امرأة يُقِمْن في مخيمات تحت سيطرة «قسد» ومعهن أطفالهن الذين تجاوز عددهم الخمسين، أن «الأطفال ليسوا مسؤولين عن تصرفات أهلهم مهما كانت خطيرة». وأنه «يجب على الحكومة استخدام جميع الوسائل الممكنة لإعادة الأطفال إلى وطنهم». ولم تصل هولندا إلى حلّ لهذا الملف، على رغم أن وكالة استخباراتها كانت قد دقت ناقوس الخطر منذ شباط 2017. وقالت الوكالة وقتها إنها «تتعامل مع الأطفال الهولنديين في مناطق الصراع في العراق وسوريا بوصفهم مسافرين جهاديين لأنهم ربما تلقّوا تدريباً عسكرياً». وتحدث التقرير عن «ثمانين طفلاً هولندياً على الأقلّ وُلد بعضهم في تلك المناطق، وبعضهم اصطُحب (من قِبَل الوالدين أو أحدهما) إليها». ومذذاك، أشارت التقديرات الهولندية إلى وجود نحو «300 مواطن هولندي ذهبوا للقتال إلى جانب الجماعات الإسلامية، عاد منهم 50، ويتوقع تزايد العودة بعد تدهور الأوضاع المعيشية في مناطق داعش».

«القنبلة البلقانية»
قبل أيام، استدعت الخارجية البوسنية السفير الفرنسي لديها للاحتجاج على وصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، البوسنة بأنها «قنبلة موقوتة»، بسبب «الجهاديين» العائدين إليها. وجاءت تصريحات ماكرون على رغم أن الفتيل «الجهادي» موجود داخل بلاده نفسها (منذ عام 2017، تحدثت تقديرات فرنسية عن وجود نحو 700 فرنسي قاصر في سوريا، وأن «عودتهم مسألة وقت») (راجع «الأخبار» 22 آذار 2017). بعد التصريحات الفرنسية بأيام، أعلنت البوسنة والهرسك أنها «تعتزم استقبال مواطنيها الذين انضمّوا إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، وتعرضوا للاعتقال خلال محاربة التنظيم». وقال وزير الأمن البوسني، دراغان ميكتيك، إن «نحو 260 مواطناً بوسنياً يعيشون في مخيمات في سوريا، من بينهم نحو 100 رجل و160 امرأة وطفلاً».
ويُعدّ انضمام بعض دول منطقة البلقان إلى «الاتحاد الأوروبي» مثار جدل داخل الاتحاد، وخاصة أن تلك المنطقة تشكل هاجساً لأوروبا في ما يخصّ ملف «الجهاديين». وتتزايد حساسية هذا الملف في ظلّ تسجيل دول كوسوفو والبوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية معدّلات عالية لانضمام «الجهاديين» إلى التنظيمات المتطرفة، قياساً بعدد سكانها. وتكرر الأمر في شأن عودة هؤلاء، إذ تشير بيانات رسمية صدرت في مطلع العام الحالي إلى أن دول غرب البلقان هي المنطقة الأعلى كثافة في أوروبا من حيث عدد «الجهاديين» العائدين، مع نحو 460 عائداً (من أصل حوالى 1100 تدفقوا إلى سوريا والعراق منذ عام 2012). وترى دراسات أميركية أن «الأحكام الصادرة في غرب البلقان بتهمة ارتكاب جرائم إرهاب هي من بين الأحكام الأكثر تساهلاً في أوروبا». وتراوحت أحكام السجن في قضايا الإرهاب في البلقان ما بين سنة وست سنوات. وتشير التقديرات إلى انتهاء أحكام «حوالى 40 في المئة من المحكوم عليهم بارتكاب جرائم إرهابية في كوسوفو في السنوات القليلة الماضية»، فيما «نال 25 شخصاً تمت مقاضاتهم وحكمت عليهم محكمة استئناف في البوسنة والهرسك أحكاماً بالسجن لمدة عام واحد و11 شهراً للأنشطة المتعلقة بالإرهاب، بما في ذلك القتال في سوريا»، وفقاً لـ«مركز مكافحة الإرهاب» الأميركي (CTC). ولا يزال «جهاديو» البلقان حاضرين في سوريا، وتعدّ «جماعة الألبان» رأس حربة في هذا المجال، ولا سيما في ظلّ مساعي «الجماعة» للقيام بدور محوري في تذويب الخلافات بين مختلف التنظيمات «الجهادية» النشطة (راجع «الأخبار»، 25 أيلول 2019).