في اللحظة التي دخل فيها جمال خاشقجي قنصلية بلاده في اسطنبول صبيحة الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، خرجت قضيته عن سيطرة الفريق الذي توهّم أنه أقفل الحساب بخنق أنفاسه، وزيادةً في الوهم، أوغل في تقطيع جسده ونقله في أكياس سوداء إلى مكان مجهول، لا يعلمه سوى الفريق المنفّذ ومعه المشرفون على الخطة، ومن فوقهم من أعطى الأوامر، أي ولي العهد محمد بن سلمان. فَقَد كلّ هؤلاء السيطرة على تفاصيل الجريمة، وباتوا جميعاً رهن التسريبات التركية. في الأيام الأولى، سادت حالة الإنكار وسط المسؤولين السعوديين، ولاسيما ولي العهد (انظر: مقابلته مع وكالة بلومبرغ في 5 تشرين الأول 2018)، وسفير السعودية في واشنطن خالد بن سلمان (نائب وزير الدفاع الحالي) الذي أدلى بتصريحات يتنصّل فيها من أي علاقة له بتوجيه خاشقجي للسفر إلى اسطنبول ومتابعة قضيته عبر القنصلية السعودية هناك (تغريدات في حسابه على تويتر في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018)، قبل أن يضطر تحت ضغط الإعلام الأميركي إلى الهرب إلى بلاده.شغلت الجريمة الإعلام الأميركي والأوروبي والتركي، وتحوّلت إلى قضية رأي عام عالمي. وأصبح ما قبل الجريمة ليس كما بعدها بحق؛ إذ بات العالم أمام انقلاب صورة ابن سلمان من مصلح ورجل اعتدال إلى قاتل ووحش. الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وحده، ولمصالح خاصة غالباً وإسرائيلية تحديداً، وقف بعناد إلى جانب ابن سلمان، على الرغم من اقتناع مديرة الـ«سي آي إيه» والكونغرس وكثير من السياسيين ووسائل الإعلام بضلوع ابن سلمان المباشر في الجريمة. وإذا كان ثمة من أنقذ رأس ابن سلمان ومستقبله السياسي فهو ترامب شخصياً. في المقابل، على المسرح الدولي، لم يعد التعامل مع ابن سلمان طبيعياً، على وقع زلزال سياسي وإعلامي ضرب السعودية منذ وقوع الجريمة، كما ظهر في قمة «مجموعة العشرين» في بوينس آيرس في الأرجنتين في الـ30 من تشرين الثاني 2018، حيث تفادى أغلب القادة السلام عليه أو حتى الاقتراب منه، فقد كانت شبهة الضلوع تلاحقه في كل زاوية، وطوق الجريمة يكاد يخنقه. لم يعد الغرب وجهة مريحة بالنسبة إلى ابن سلمان، ولذلك افتعل حريته الوهمية، بتكريس رحلاته طيلة الشهور الماضية نحو الشرق: اليابان، والصين، وماليزيا، وباكستان، وكوريا الجنوبية... أما الغرب الذي يمثّل على الدوام العمق الاستراتيجي لبلاده، والشريك الحيوي والتجاري والتاريخي لنظام أسرته، فقد بدت أبوابه مغلقة، اللهم إلا من خلال الاتصالات الهاتفية، وربما الزيارات السرية المحفوفة بالمخاطر.
اراد ابن سلمان العودة إلى الغرب عبر الإعلام والعلاقات العامة ولكن بلا طائل. من يشاهد مقابلته مع برنامج «60 دقيقة» على قناة «سي بي أس» الأميركية نهاية الأسبوع الماضي، ينتابه شعور بأن الرجل أقرب ما يكون إلى حمل وديع مستسلم، ولكنه في الوقت نفسه بدا غارقاً في حالة إنكار تام لكلّ الجرائم التي وقعت في عهده، نافياً أيّ صلة له بما يجري في السجون من تعذيب وحشي للناشطات وبقتل خاشقجي وتقطيعه، متلطّياً وراء لغة حمائية وأيديولوجية دينية نمطية. أنفق مبالغ طائلة على شركات العلاقات العامة في سبيل إعادة تسويق نفسه، وترميم صورته المهشّمة، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في تحقيق خرق فارق؛ فطبيعة الجريمة لجمت كل ذي قلم ولسان، ومنعته من الدخول في لعبة التلميع، حَذَر الخسارة المعنوية وتلطيخ السمعة.
بعد مرور عام على الجريمة لا يزال النظام السعودي يعاني من شلل نصفي


في الداخل، الأمر مختلف. فقد حصل على منصبين جديدين مع المزيد من تعزيز القوة، الأول في الـ19 من تشرين الأول 2018 برئاسة لجنة لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة (المتورّطة في الجريمة عبر نائب رئيسها اللواء أحمد عسيري)، والثاني في الـ26 من تشرين الأول من العام نفسه برئاسة «مجلس المخاطر الوطنية»، إلى جانب تعزيز موقعه في بنية الدولة ومؤسساتها، وآخر وجوه ذلك تعيين ذراعه المالية ورئيس صندوق الاستثمارات العامة، ياسر الرميان، رئيساً لمجلس إدارة «أرامكو»، وأخيراً رئيساً لمجلس شركة التعدين السعودية «معادن». أما لناحية الفريق الذي ارتكب الجريمة، والذي لفّه الغموض على مستوى الأسماء والمحاكمات والعقوبات، فإن ما توافر من معلومات يفيد بأن الفريق لم يخضع قطّ للمحاكمة، وبعد عام على الجريمة لم نسمع عن تنفيذ أي عقوبة، ولم يُكشف عن نتائج التحقيق، وأهمها الإجابة عن سؤال: أين جثة خاشقجي؟ يشي خبر بيع مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول بنية طمس معالم الجريمة، ومحوها من الذاكرة الكونية. ولكن، سيبقى ملف القضية مفتوحاً طالما بقيت ألغازها من دون حلّ، وستبقى صورة ابن سلمان عصيّة على الترميم، بعدما تحوّل قتل خاشقجي إلى قضية رأي عام دولي.
بالنسبة إلى جمال خاشقجي، المغدور به، بعد مرور عام على الجريمة، وسكون الفورة العاطفية التي رافقت القضية الصادمة بكل مقاييس الدنيا والديانات، ثمة ما يدعو إلى التأمل، إن على مستوى أصل القضية وتبعاتها، أو على مستوى العواقب. وعلى نحو الإجمال، فإن خاشقجي، وبكلّ صراحة، وقع ضحية عاملين متداخلين:
الأول: تحوّل بنيوي في السلطة السعودية منذ تسلم سلمان مقاليد السلطة في الـ23 من كانون الثاني/ يناير 2015. فما جرى في عهده هو انتقال من نمط الحكم الأوليغارشي، حين كانت تدار السلطة من قِبَل أجنحة في العائلة المالكة تتقاسم السلطة والنفوذ، وتسير وفق سياسة محافظة تتسم بالهدوء والرتابة والتسويات والمساومات وتحاشي المصادمة المباشرة وحروب النيابة، إلى نمط حكم أوتوقراطي (فردي) يتّسم بالمبادرة والجرأة والمصادمة والمغامرة واللامبالاة والوحشية. ظهر ذلك جلياً في الحرب على اليمن في الـ26 من آذار/ مارس 2015، وفي الأزمة مع قطر في الـ5 من حزيران/ يونيو 2017، وفي احتجاز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري في الـ4 من تشرين الثاني 2017، وتالياً «غزوة الريتز» في اليوم نفسه، وتهديد ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية للقبول بصفقة القرن المشتملة على التنازل عن القدس، وصولاً إلى جريمة قتل خاشقجي في الـ 2 من تشرين الأول 2018، وتبعاً لها ما جرى قبل أيام (28 أيلول/ سبتمبر الماضي) من مقتل الحارس الشخصي للملك، اللواء عبد العزيز الفغم، في ظروف بدت غامضة في البداية، فيما تشير أصابع الاتهام ــ بحسب ظروف الحادثة وأوجه الشبه بينها وبين سيناريو قتل خاشقجي (خلاف شخصي، وملاسنة، وشجار، ثم قتل) ــ إلى محمد بن سلمان نفسه.

أراد ابن سلمان العودة إلى الغرب عبر الإعلام والعلاقات العامة ولكن بلا طائل


العامل الثاني: القراءة المبتورة لدى خاشقجي. إن النزعة الإيكوسنترية لدى ابن سلمان بدت مكتومة، أو بالأحرى مجهولة حتى عند المقرّبين من النظام السعودي، أو الذين عملوا معه لسنوات طويلة، وتمسّكوا بالرؤية القديمة عنه، ومفادها أن تركيبة النظام القائمة على تحالفات داخلية، وشبكة مصالح بين الأمراء وزعماء القبائل ورجال الدين والتجار والمثقفين وكتاب الصحف والأدباء والشعراء والرياضيين والفنانين، تجعل من الصعوبة بمكان إقدام أيّ طرف على المساس بنظام راسخ الجذور، من قبيل قتل أحد أبنائه البَرَرة. لم يكن خاشقجي معارضاً في أيّ يوم، وحتى آخر يوم من حياته، بل كان ينفي بمناسبة ومن دونها أن يكون من أهل المعارضة، ويشدد على أنه ابن النظام، وما يطمح إليه هو بعض الإصلاحات غير المستحيلة التي تجعل من السعودية نظاماً رائداً، ومؤهّلاً لإدارة العالم الإسلامي بالتحالف مع تركيا، التي يرى فيها الركن الآخر في تحالف إسلامي «سنّي» يواجه إيران، ويفرض سطوته على المجال الإسلامي عموماً. لم يعارض الحرب على اليمن، على الأقلّ في بداياتها، ولم يعارض «رؤية 2030»، ولم يعارض أيّاً من الحروب في المنطقة، بما في ذلك في سوريا والعراق وليبيا، بل إن جلّ ما دعا إليه هو تشكيل تحالف إسلامي «سنّي» يتولى إدارة دفة الحروب ويفرض هيمنته. وكان مدافعاً شرساً عن النظام السعودي، حتى بعد خروجه من مهمته الدبلوماسية في لندن إلى جانب السفير الأسبق الأمير تركي الفيصل، حيث كان يكتب المقالات دفاعاً عن السعودية، بل وتحريضاً لها على اعتناق مواقف راديكالية في ما يتعلق بعلاقاتها مع غيرها من الدول. ولطالما انبرى للردّ على وسائل الإعلام التي تنتقد السعودية (لا سيما وسائل الإعلام المصرية التي كانت توجّه انتقادات في تلك الفترة إلى المملكة)، إلى درجة إحراج النظام نفسه، حيث اضطرت وزارة الخارجية السعودية إلى إصدار بيان في الـ20 من كانون الأول/ ديسمبر 2015، تنفي فيه أن يكون جمال خاشقجي ونواف عبيد وأنور عشقي على صلة بأي جهة حكومية، وتؤكد أن «الثلاثة لا يعكسون وجهة نظر حكومة المملكة العربية السعودية، وأن آراءهم تعبر عن وجهات نظرهم الشخصية». وفي داخل المملكة، بارك خاشقجي إعدام الشيخ نمر النمر في الـ2 من كانون الثاني 2016، وتبنّى خطاباً طائفياً استفزازياً في سلسلة مقالات («لا أريد أن أكون طائفياً... لكنك لا تساعدني» / الحياة 22 حزيران 2013 - «دافع عن السُنَّة ولا تبال»/ الحياة 8 تشرين الأول 2016)، وبدا منحازاً للإجراءات الأمنية ضد المعارضين.
في المقابل، لا يصحّ إغفال حقيقة أن جمال خاشقجي، من موقعه الإعلامي والفكري، دفع ثمن مواقف جريئة حين تولّى رئاسة تحرير صحيفة «الوطن»، حيث سمح للرأي الآخر بالتعبير عن نفسه، بما فيه الرأي الديني، الأمر الذي انتهى به إلى إعفائه من منصبه. علاوة على ذلك، أحدث خروجه من المملكة تغييراً طفيفاً في لهجته، حيث بدا كما لو أنه يمسك العصا من وسطها، ولكن بموقفه هذا لم يحسن التموضع في برزخ الغموض والحيرة، فلا هو في معسكر المعارضة ولا في معسكر النظام. نعم، طالب في الفترة الأخيرة من حياته بإصلاحات سياسية وإطلاق سراح المعتقلين، وحذّر من مغبة المغامرات التي يقوم بها ابن سلمان، واقترب تدريجياً من خطاب المعارضة وإن بحذر شديد، وربما انفتح على بعض أطرها الإعلامية والحقوقية. تذبذبٌ لم يمنع قوى المعارضة بكلّ أطيافها من تبنّي قضيته، والمطالبة بتحقيق شفاف وعادل لكشف حقائق الجريمة، ومعاقبة المتورطين فيها.
إجمالاً، وبعد مرور عام على الجريمة، لا يزال النظام السعودي يعاني من شلل نصفي. فهو على رغم كلّ المحاولات لفكّ العزلة الدبلوماسية الخانقة التي وضع ابن سلمان نفسه فيها، عاجز عن ابتكار حلّ اختراقي يعيده إلى المشهد الدولي طيّب السيرة نقيّ الثياب، لأن دون ذلك الحلّ الجراحي في الداخل، الذي يتطلّب استبداله بأخ له، وقد يكون هذا أحد دوافع قتل الفغم.