دخلت إسرائيل، منذ يوم أمس، مرحلة الصمت الانتخابي قبيل انتخابات «الكنيست الـ22» التي تجري غداً. صمتٌ تبدو فائدته الوحيدة في أنه لجم ألسنة المرشحين العرب الذين دأبوا على إطلاق تصريحات معيبة، بدءاً من إبدائهم استعدادهم للتحالف مع جنرالات الحرب وجزّاريها، وصولاً إلى دعوتهم مَن يرفضون «اللعبة الديمقراطية» من الفلسطينيين إلى أن «يهجّوا من البلاد»! كلّ هذا في كفّة، والحملات الدعائية التي تقودها جمعيات مدعومة من اللوبيات الأميركية في كفّة ثانية.«نحن أبناء الأقلية العربية، المواطنين في هذه الدولة، علينا ممارسة حقنا في الاقتراع وإسقاط الفاشي بيبي (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)، وأن نمنح الثقة للقائمة العربية المشتركة التي ستعرض قضايانا في الكنيست، صارخةً بأعلى الصوت لاستحصال حقوقنا وحمايتنا ضد جرائم العنف، ولتحسين الأحوال الاقتصادية الصعبة، ولمنع هدم بيوتنا...». ما سبق هو خلاصة التنظير الذي مارسه دعاة التصويت في انتخابات «الكنيست الـ22». تنظير يعودٌ بالذاكرة إلى مرحلة (في العقد الأول بعد النكبة) كان فيها كوادر الأحزاب «الحريدية» يتجولون في قرى الجليل، وخاصة في معاقل «الحزب الشيوعي»، داعين الأهالي إلى عدم التصويت للأخير الذي هو في نظرهم «مجموعة كفّار وملحدين»، فيما الأحزاب الدينية اليهودية «تؤمن بالله، وذلك سبب كافٍ لتستحق أصوات العرب»، وفق ما يروي كبار السن.
العبرة من تلك الرواية أن النظام الاستعماري العنصري عامل فلسطينيي الـ48، ولا يزال، على أساس نظرة دونية تُصنّفهم كمتخلّفين ومحدودي الإدراك وفاقدي القدرة على تحديد مصيرهم. المفارقة اليوم أن مَن ينتهجون هذا النهج قيادات «القائمة العربية المشتركة» التي يقف على رأسها مَن يدعو صراحة إلى التحالف مع «جزّار الحرب في غزة» (بني غانتس) بذريعة إسقاط نتنياهو، فيما تكاد الفروقات تكون معدومة بين المتنافسَين. أما ما قاله المرشح منصور عباس، قبل أيام، خلال اجتماع انتخابي موثق بالصوت والصورة، من أنه «يؤيد المقاطعين ويكنّ لهم الاحترام، ولكن في هذه المرحلة من لا يريد المشاركة في اللعبة الديمقراطية عليه أن يسلّم هويته ويرحل»، فيُذكّر بشعار حملة «إسرائيل بيتنا»: «لا انتماء لا مواطنة». هكذا، ينسف عباس، الذي اعترف قبل بضعة أشهر بتلقي «المشتركة» المال السياسي من «الشرق والغرب»، هو وعودة وغيرهما، الخطاب الوطني الذي أخذ منحىً تطبيقياً منذ أواخر الستينيات، ليبلغ أسمى مرحلة له في بداية الألفية الثانية، قبل أن يتهاوى تدريجاً ليأتي اليوم من يحمل خطاب «الأسرلة»، ويحثّ على تقبّلها كـ«قدر حتمي».

الجمعيات المشبوهة: يدٌ يمنى للأحزاب
منذ فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة عقب الانتخابات الأخيرة، ومن ثم حلّ «الكنيست» والتوجه إلى جولة إعادة، وجدت «المشتركة» التي كانت قد تفتّتت وخسرت ثلاثة مقاعد برلمانية فرصة جديدة لإعادة توحيد صفوفها، علّها تستعيد ما خسرته. لم يدرك قادة هذه الأحزاب أن ما خسروه إنما هو ثقة فلسطينيّي الـ48 بهم، وبنتائج «نضالهم السياسي» في البرلمان، الذي ثبت أنه بلا تأثير يذكر؛ إذ إنه لم يفلح في الحدّ من جرائم العنف التي راح ضحيتها منذ عام 2000 إلى الآن أكثر من 1170 قتيلاً، كذلك فإنه لم يستطع إيقاف هدم بيت واحد من بين 50 ألف بيت عربي مهدّدة بالهدم، أو إحقاق المساواة غير المشروطة، بل إنه في عهد «المشتركة» سُنّت عشرات القوانين العنصرية، وعلى رأسها «قانون القومية».
على هذه الخلفية، يبدو واضحاً، منذ ما لا يقلّ عن شهرين، أن فلسطينيّي الـ48 يميلون إلى خيار مقاطعة الانتخابات. خيارٌ، إن لم يكن الدافع إليه تأييد أصل المقاطعة، فهو الرغبة في معاقبة الأحزاب العربية، أو اليأس من الحالة السياسية العامة. ولذلك، سارعت الأحزاب العربية إلى إعادة تحالفها، مستنفرةً ما بقي من كوادرها لعقد مهرجانات انتخابية داخل البلدات والمدن، من دون أن ينجح كل هذا الجهد في تغيير استطلاعات الرأي التي كانت تشير في معظمها إلى أن «المشتركة» ستحافظ على مقاعدها الـ10، أو في أحسن الأحوال ستزيدها واحداً.
اللافت أن «المشتركة» لم ترتدع عن استخدام أيّ أسلوب في محاولتها تعبئة الناخبين. نموذجٌ من ذلك أنها نشرت لافتاتها على أساس مناطقي وطائفي. ففي مدينة أم الفحم مثلاً، ارتفعت صور المرشح الإسلامي منصور عباس، أما في حيفا، فبرزت صور المرشحَين المسيحيَّين عايدة توما - سليمان وإمطانس شحادة. اللافت أيضاً، أن عشرات الجمعيات الداعية إلى «العيش المشترك» بين العرب واليهود ضخّت، على مدى الشهرين الماضيين، كمية هائلة من الإعلانات الموجّهة والمدفوعة الثمن على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تضليل الرأي العام ودفع العرب إلى التصويت، على قاعدة أنه «مش مهم لمين تصوّت. المهم تصوّت». ويقف على رأس تلك الحملات أشخاص محسوبون على أحزاب «المشتركة» أو أعضاء فيها، وآخرون مقربون من أحزاب اليسار ويسار الوسط الإسرائيليَّين. ولم يقتصر عمل هؤلاء على وسائل الإعلام، بل إنهم نزلوا إلى الأرض، حيث تجوّلوا بلباس حملاتهم لجمع أكبر قدر من «التعهدات» بالتصويت. حتى إن الممثل هشام سليمان ظهر في شريط إعلاني، واضعاً سبّابته على فمه وقائلاً لمن لا يريد المشاركة في التصويت: «هُش»! علماً أن سليمان، الذي شارك في مسلسل «فوضى» الصهيوني مؤدّياً دور «أبو أحمد» (القيادي الأسير في حماس إبراهيم حامد)، هو من مؤيّدي تجنّد شباب الـ48 في جيش الاحتلال.
تفتقر الحملات إلى الخطاب الوطني، وتعكس حجم المأزق الذي تعيشه «المشتركة»


يُضاف إلى سليمان «نشطاء» آخرون لم يمانعوا «قبول تمويل من بعض الأحزاب الصهيونية، ومن الجاليات اليهودية في أميركا، بهدف إنقاذ ديمقراطية إسرائيل، وتعزيز حظوظ حزب أزرق أبيض، بعدما خرّب نتنياهو علاقة يهود إسرائيل بيهود الولايات المتحدة»، وفق ما يقول مصدر مطلع لـ«الأخبار»، وهو ما اعترف به منسّق حملة «17/9 هاي المرّة مصوّتين»، رئيس جمعية «التخطيط البديل» سامر سويد، في مقابلة مع «راديو مكان» الإسرائيلي. الحملة المذكورة، التي تقف خلفها سبع جمعيات، تعرّف نفسها بـ«التزام الحياد»، و«عدم الانحياز لرأي»، و«الالتزام بالأنظمة وفق قانون الجمعيات»، إلا أن مدير «المؤسسة العربية لحقوق الإنسان»، التي أدارت «حركة حق الشبابية» التي خُنقَت ومُنع التمويل عنها بسبب تأييدها حركة المقاطعة العالمية، محمد زيدان، يرى أن السبب الأهم لعدم كشف «17/9 هاي المرّة مصوّتين» (التي سرقت نشيد «إضرب والريح تصيح» للمنشد اللبناني علي العطار وأسقطت عليه كلمات «صوّت والريح تصيح») مصادر تمويلها (الذي بلغ ملايين الشواكل) «أنهم يعملون وفق قواعد وضرورات قانون مصدر التمويل السري حتى الآن». وترفض الجمعيات والمنظمات العربية الكشف عن مصادر تمويلها في الوقت الحالي، على رغم أنه بحسب القانون يجب عليها تقديم الكشوفات المالية لمسجّل الجمعيات في إسرائيل.
فضلاً عما تقدم، انتشرت، منذ أسبوع، لافتات في عدة مدن فلسطينية أساسية، تدعو الأهالي إلى المشاركة في استفتاءات رأي تُنظَّم عند مداخل المدارس ومراكز الاقتراع. وتقف وراء تلك اللافتات جمعيات مموّلة من المصادر نفسها، تستخدم الأسلوب الذي استُخدم في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، المعروف بـ«المصيدة»، الذي يستهدف الواقفين على الحياد وغير الراغبين في التصويت. وتستغلّ الجمعيات، في أسلوبها هذا مواضيع تشغل الناس، كـ«الهوائيات المسببة للسرطان، والبنى التحتية، والخدمات الصحية والاجتماعية...»، من أجل جذبهم إلى أماكن الاستفتاءات حيث يجري «اصطيادهم» لإقناعهم بالتصويت.
بالنتيجة، تعكس حملات الأحزاب العربية الضحالة الفكرية لمن يقفون خلفها، وافتقارهم إلى الخطاب الوطني في حدّه الأدنى. كذلك فإنها تعكس حجم المأزق الذي تعيشه «المشتركة»، التي ربما رفعت بأساليبها عدد المصوّتين الفلسطينيين للأحزاب الصهيونية من 130 ألفاً إلى أكثر من 150 ألفاً.



«سيدي الرئيس... أنا جندي تعيس»


استخدم حزب «أزرق أبيض»، النائبة المرشحة عن الدروز ضمن قائمته غدير مريح، للتوجه إلى الناخبين العرب عموماً والدروز خصوصاً. إذ أنتجت الماكينة الإعلامية للحزب شريط فيديو يبدأ بتوجيه العتب إلى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وفق نمط أغنية «سيدي الرئيس» التي أنتجتها شركة «زين» الكويتية في رمضان الماضي، وينتهي بظهور مريح وكأنها المخلّص أو المنقذ الذي سيحقق العدل والمساواة، ويعيد للخادم العربي في جيش الاحتلال «إسرائيليّته»، علماً بأن الخادمين في الجيش (من الدروز وغيرهم) عانوا من السياسات العنصرية عينها التي عاناها أقرانهم غير الخادمين ورافضو خطاب الأسرلة. وأثارت الأغنية، التي حملت عنوان «لأننا إسرائيليون»، ردود فعل كثيرة؛ لعلّ أبرزها ما نُشر في صفحة الدروز الرافضين لقانون القومية، حيث كتب أحدهم: «كان بإمكان حزب أزرق أبيض أن يمنع قانون القومية، غير أن مسؤوليه كانوا أول من خطّوا النص». وأضاف: «لا اختلاف بين الفرق الكشفية، لا أريد إرسال ابني للكشاف ولا للجيش ليحرس إيتمار بن جفير (النائب اليميني في حزب «قوة يهودية») يوم السبت، بينما يدرّب أبناؤه المستوطنين».


حتى «الأرزّ»... وسيلةً للدعاية!
من بين الحملات المشاركة في الدعاية «العربية» في الانتخابات الإسرائيلية، حملة «معاً للأبحاث» التي تقول إنها تضمّ «مجموعة غير سياسية وغير حزبية من الباحثين»، علماً بأن صفحتها على «فايسبوك» لا تحتوي أثراً لتلك الأبحاث، بقدر ما تبثّ دعوات متواصلة للعرب إلى التصويت. إلى جانبها حملة «صوتك مستقبلك» التي تتلقى الدعم المادي من المصادر المشبوهة نفسها التي اعترف بها سويد وعباس، والهدف منها هو «دعم الجهود الوطنية لزيادة التصويت عند العرب». هناك أيضاً حملة «نقف معاً»، التي تعرّف عن نفسها بالقول: «شركاء وشريكات من كل أنحاء البلاد ــــ شباباً وشيباً، يهوداً وعرباً، نساءً ورجالاً، من المركز ومن الأرياف ــــ انتظموا معاً بإرادتهم الحرة لكي يعملوا معاً بشراكة»، وهي تدعو إلى التصويت على قاعدة «المهم تصوّت». أما حملة «أنا امرأة... أنا أنتخب» فتقف من خلفها بحسب الرصد الذي أجراه زيدان «جمعية نسوية» مجهولة الهوية، وتستبطن شعاراتها استغلالاً واضحاً لقضية العنف ضد النساء من أجل دفعهنّ إلى التصويت، وكأن من «لا تصوّت حتماً ستقتل». وإلى جانب ما تقدم، يشار إلى «حملة بدنا نصوّت» المدعومة من شركة إعلامية وتجارية تحمل صور ممثلين وشخصيات، وتدعو الناس إلى التصويت بحجة أنه «اجتك كمان فرصة، المهم تصوّت، مش مهم لمين». حتى مصنع «أرز تلس» انضمّ إلى تلك الجوقة، إذ بثّ إعلاناً عبر الإذاعات المحلية، تخبر فيه امرأة زوجها أنها مدعوّة إلى تناول المنسف المصنوع من «أرز تلس»، ليجيب الزوج بالقول: «ما دمت معزومة ع منسف من أرز التلس، باجي معك وبصوت لجماعة أهلك».