جرياً على ما فعله أرئيل شارون في المسجد الأقصى في القدس قبل نحو عقدين، أي عملية الاقتحام الوقحة التي أشعلت انتفاضة الأقصى الثانية، حطّ بنيامين نتنياهو محتلّاً ثقيلاً وقبيحاً على أرض الخليل، معيداً إحياء سيرة «رجل قوي»، في صراع انتخابي سبق أن ظهر من نتائجه السابقة أن نتنياهو «آخر القادة» في إسرائيل، أو هذا ما يحاول أن يروّج له. سريعاً، ألقى نتنياهو كلمته وولّى، بعدما شلّ جنود العدو المدينة لمنع أي احتجاج أو اعتراض. كلمةٌ توعّد فيها الخليل بـ«البقاء إلى الأبد، وتوسيع الاستيطان»، في تجرّؤ ليس إلا حصيلة ما جنته سلطة «أوسلو»، التي خصّصت للخليل اتفاقاً زاد طين المدينة بلّة، لتصير مثل هذه الخطوة تواجَه بالاستنكار، وهو ما يقلّ حتماً عن «أضعف الإيمان».بعد 21 عاماً، رجع «المكابيُّ الأخير» (رابط: https://al-akhbar.com/Palestine/238919) إلى الخليل من بوابة إحياء ما يُدعى عبرياً «أحداث الـ1929»، أو ما يُعرف فلسطينياً بـ«ثورة البراق». رئيس حكومة العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المحاصَر بمخالفاته القانونية التي لا تُعدّ ولا تُحصى، لم يعد أمامه سوى أقل من أسبوعين لإجراء انتخابات «الكنيست» التي ستُحدّد مستقبله السياسي. ومن الخليل، التي تُعدّ بمعالمها التاريخية والدينية رأس حربة المشروع الاستيطاني في الضفة المحتلة، دعا نتنياهو إلى ضرورة بناء «أحياء (استيطانية) جديدة» في المدينة، وهو ما انتظره المستوطنون طويلاً، كما عبّر أحدهم قبل وصول الرؤساء الثلاثة: الرئيس الإسرائيلي، ورئيس الحكومة، ورئيس «الكنيست»، إلى المدينة. لكن هذا المستوطن قال :«لا نعقد آمالاً على خطابه (نتنياهو)، بل أفعاله»، كما نقلت عنه صحيفة «معاريف»، فيما وعد نتنياهو بـ«(أننا) نحن في الخليل إلى الأبد ولن نخرج منها، ولن ينجح أحد في طردنا من هذا المكان».
وبما أن الزيارة تأتي في ظلّ ثبات المشهد الانتخابي الإسرائيلي عند الصراع على أصوات اليمين، فإنها قد تُعتبر تكتيكاً لكسب أصوات المستوطنين ذوي الأيديولوجيا اليمينية. أما في الشكل العام، فهي ليست سوى استمرار لمحاولات الضم الزاحف، وترسيخ السيادة الإسرائيلية أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً على الضفة، في ظلّ عجز السلطة الفلسطينية عن تنفيذ جزء، ولو بسيطاً، من إعلاناتها المتكررة، وآخرها الذي أطلقه رئيسها، محمود عباس، من دون أن يُلحظ لكل ذلك أثر على أرض الواقع.
وسبق وصولَ نتنياهو انتشارٌ كثيف لجيش الاحتلال في الخليل، خاصة في البلدة القديمة، لمنع أي تحرك فلسطيني أو تجمّع رافض. أما الطلاب الفلسطينيون، فكأنه لا تكفيهم الحواجز اليومية التي تمنع أو تعوق وصولهم إلى مدارسهم، بل أخلى جنود العدو 12 مدرسة في محيط المسجد الإبراهيمي، وذلك في إطار تأمين اقتحام المسجد والبلدة. وكحال المدارس، أُغلقت المحال التجارية في عدة مناطق في البلدة القديمة، فيما علّق المستوطنون أغطية كبيرة في محيط المناطق التي سيمرّ منها نتنياهو من أجل حجب الرؤية عن الفلسطينيين في الأماكن التي ستجري فيها الأنشطة. الجولة، التي أدانتها الفصائل الفلسطينية ووصفتها بـ«المستفزّة لمشاعر الفلسطينيين والمسلمين»، تأتي بعد أيام على زيارة أخرى لنتنياهو، لمستوطنة «ألكانا» في محافظتَي سلفيت وقلقيلية (شمال) خلال افتتاح السنة الدراسية، حيث خاطب الحاضرين قائلاً: «تذكروا وأنتم في هذا المكان أن هذه أرض إسرائيل أرضنا. لن نقتلع أي أحد من هنا، وسنفرض السيادة اليهودية على المستوطنات كافة ونعلنها جزءاً من دولة إسرائيل».
سبق وصولَ نتنياهو انتشارٌ كثيف لجيش العدو في المدينة


عموماً، تُعدّ الخليل عيّنة مصغرة مما فعله الاحتلال ببقية الضفة بعد النكسة العربية الكبرى؛ إذ بدأت تزحف المشاريع الاستيطانية والتهويدية إلى الضفة عامة وإلى المدينة التي يسكنها اليوم أكثر من ربع مليون فلسطيني. فقد شرع المستوطنون في سرقة أحيائها ومعالمها المهمة، خاصة في محيط البلدة القديمة التي باتت أشبه بمجمع عسكري يعجّ بالحواجز الأمنية المعرقلة لحركة السكان وتنقلاتهم. هذا المشروع الاستيطاني أنتج خمسة مواقع استيطانية في تل الرميده، والدبويا، ومدرسة «أسامة بن المنقذ» وسوق الخُضَر، والاستراحة السياحية قرب الحرم، إضافة إلى التجمع الاستيطاني اليهودي على حدود المدينة الشرقية المعروف باسم «كريات أربع». صحيح أن السعي الإسرائيلي إلى تهويد أجزاء من الخليل، وخاصة الحرم الإبراهيمي، بدأ بعد النكسة مباشرة، لكن المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين عام 1994 شكّلت حدثاً مفصلياً في تاريخ المدينة؛ إذ أسست لـ«اتفاقية الخليل» الملحَقة بـ«أوسلو». وبدلاً من أن تُستثمر نضالات الأهالي خلال الأحداث التي أعقبت المجزرة، شرّعت السلطة بتوقيعها ذلك الاتفاق سرقة أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم رسمياً، وحدّت بأيديها حرياتهم الدينية والمدنية!
وقبل ذلك بنحو ثلاثة عقود، أسّس وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، موشي ديان، لصراع ظاهره ديني على الحرم الإبراهيمي الذي صُنِّف مكاناً مختلَفاً عليه بين اليهود والمسلمين، وباطنه صراع على الأرض بما تحتها وفوقها. فبالنظر إلى الأحداث التي تجري غير بعيد في القدس، وتحديداً في البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى، لا يمكن توقع مصير أفضل في الخليل. المشروع الاستيطاني في المدينة جرى بشكل عريض، فعلى حدودها شُيّد تجمع «كريات أربع» بعد عامين من النكسة، وبدأ الأمر بأن أقامت عائلات سويسرية في فندق «البارك» وسط الخليل ليتبين عقب ذلك أنها عائلات يهودية تريد الإقامة الدائمة، وكان يقودها الحاخام موشيه ليفنغر. بعد إقامة المستوطنة، شقت جرّافات الاحتلال طريقاً يصل بينها وبين الحرم، وهو ما يُطبَّق اليوم بالطريقة نفسها في القدس، حيث يربط الاحتلال المستوطنات خارج البلدة القديمة بداخلها، وتحتها بشبكة من الأنفاق والبنى التحتية.
على هذه الخلفية، وانطلاقاً من طموحات المستوطنين واعتقاداتهم بأحقيتهم بالأرض، نُفّذت بعد عقود مجزرة الحرم التي تركت نتائج سلبية على حياة الفلسطينيين، ليس في قلب المسجد الذي قُسّم زمانياً ومكانياً فقط، بل أيضاً في بقية الأحياء في المدينة. وعلى الخلفية نفسها، وانطلاقاً من المعتقدات السابقة، فإن خطوة نتنياهو أمس، التي تأتي بعد تسعة أشعر من تصديق المستشار القضائي للحكومة، أفيحاي مندلبليت، على سحب سيطرة بلدية الخليل على سوق الجملة والإعداد لإقامة حي استيطاني كبير فيه، تُعتبر استمراراً لتلك المجزرة التي أتت على دماء الناس وأبنائهم، واليوم على اقتصادهم وركائز وجودهم. ولئن تنوّعت الأحزاب الإسرائيلية بقادتها، واختلفت مع احتدام المنافسة الانتخابية التي تستحق في السابع عشر من الشهر الجاري، فإن الذكرى الـ90 لأحداث 1921 وما فعله نتنياهو ذكّرا زميلته، رئيسة «إلى اليمين» أييلت شاكيد، بمطالبته ببناء حيّ يهودي في المدينة. وقالت شاكيد: «حان الوقت لبناء حيّ يهودي في الخليل، الأمر بيدك»، في مطالبة تؤكد مرّة جديدة أن المنافسة الحقيقية تجري على من كان الأكثر خدمة للمشروع الاستيطاني، ليس في الضفة فحسب، بل في كلّ فلسطين.



نتنياهو: صفقة القرن بعد الانتخابات مباشرة
قال بنيامين نتنياهو إن الإدارة الأميركية ستنشر خطتها، المسمّاة «صفقة القرن»، مباشرة بعد الانتخابات الإسرائيلية. جاء ذلك في كلام ضمن حملته الانتخابية وبحضور مؤيدين من حزبه «الليكود». ونقل موقع «تايمز أوف إسرائيل»، أمس، عن نتنياهو قوله: «مَن الذين تريدون أن يدير المحادثات حول صفقة القرن التي سيقدمها الرئيس (الأميركي دونالد) ترامب، والتي ستطرح مباشرة بعد الانتخابات؟»، في إشارة إلى نفسه. وسبق أن أعلن مسؤولون أميركيون تأجيل إعلان «الشقّ السياسي» من الصفقة إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، في سيناريو تكرّر خلال الانتخابات الماضية.
(الأخبار)