لم يكن العراق يحتاج إلى سلسلة التفجيرات التي استهدفت مخازن «الحشد الشعبي» أخيراً، حتى يكتشف أنه سيواجه مخططات بديلة تستهدف أمنه وسيادته بعد فشل مخطط «داعش». فاستهداف «الحشد» كان ولا يزال خياراً مطروحاً على جدول أولويات الولايات المتحدة وإسرائيل، ويعود ذلك إلى أنه أحد أهم عناصر قوة العراق، الذي يشكل بدوره مركز ثقل إقليمي، نتيجة موقعه الجغرافي، وإمكاناته البشرية والاقتصادية، وبفعل الظروف السياسية السائدة. في قراءة خاطفة للتطورات التي شهدتها المنطقة، يلاحَظ أن جزءاً أساسياً من الاستراتيجية التي اتبعتها واشنطن وتل أبيب يركّز على استهداف عناصر القوة التي أفشلت مخططاتهما، سواء كانت شخصيات أو أسلحة أو مؤسسات أو تحالفات أو حركات... ولهذه الغاية، عمدتا إلى محاولة تصوير تلك العناصر على أنها مشكلة للبلد المستهدَف، بعدما ظهرت كمُنقِذة له، هادفتين من وراء ذلك إلى قلب الصورة في أذهان الرأي العام، في مقدمة لتغيير المعادلة ولو نسبياً، وبتكتيكات جديدة.هذا ما حصل مع المقاومة في لبنان عندما أسقطت المخطط الأميركي ــــ الإسرائيلي، فكان التركيز في المرحلة التي تلت على سلاح المقاومة باعتباره مشكلة. المفهوم نفسه ينسحب على المقاومة في غزة. أما في العراق، فقد أدى «الحشد الشعبي» دوراً حاسماً في إسقاط مخطط «داعش»، وتحوّل إلى قوة إقليمية لم يعد بالإمكان تجاهلها في أي ترتيب سياسي أو أمني يتصل بالعراق والمنطقة. من هنا، كان لا بد من التركيز عليه سياسياً وأمنياً وإعلامياً، وأيضاً عسكرياً. قد لا يكون ثمة حاجة إلى لجان تحقيق لاكتشاف أن الاعتداءات التي تعرّضت لها مخازن «الحشد» جزء من مخطط تخريبي يستهدف الأمن القومي العراقي، كذلك لا حاجة أيضاً إلى بذل جهود لمعرفة من يقف خلف ذلك المخطط، وهو الولايات المتحدة. لكن لا بدّ من معرفة الأدوات التي أوكلت إليها مهمة التنفيذ، لتقرير التكتيكات التي يجب اتباعها في مواجهتها. هنا، عادة ما يُستحضَر العدو الإسرائيلي لأكثر من اعتبار، في مقدمها أن العراق كان ولا يزال يحتل مكانة متقدمة جداً في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، وأنه أيضاً إحدى أهم الساحات التي تلجأ إليها واشنطن في تنفيذ مخططاتها.
من المستبعد أن تلجأ إسرائيل إلى أي خطوة في العراق من دون ضوء أخضر أميركي


لم يشر بيان نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي»، أبو مهدي المهندس، إلى إسرائيل كأداة تنفيذ مباشرة في التفجيرات الأخيرة. كذلك لم يصدر حتى الآن تبنٍّ رسمي إسرائيلي لأيٍّ من تلك الحوادث، ومن غير المتوقع أن يحصل ذلك، خصوصاً أن تل أبيب لم تعلن مسؤوليتها الرسمية عن الغالبية الساحقة من اعتداءاتها على الأراضي السورية، فكيف عندما يدور الحديث عن اعتداءات تستهدف العراق، على افتراض أن لها دوراً عسكرياً مباشراً فيها؟ أما كلام رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، خلال زيارته لأوكرانيا، في هذا الموضوع، فقد كان عاماً جداً وتقليدياً، وينطبق على كافة الساحات المرصودة إسرائيلياً، حيث قال: «(إننا) نعمل بشكل منهجي على منع إيران من التموضع في سوريا. ولا توجد لإيران حصانة في أي مكان، وأنا أقصد ذلك. وسنعمل ضدها أينما يجب».
من الواضح أن تركيز إسرائيل في خطابها الرسمي على التمركز الإيراني في كلّ من العراق وسوريا ولبنان، جزء من خطة سياسية وإعلامية أيضاً، تستهدف التعمية على حقيقة أن إسرائيل تبذل كل جهودها لمنع تلك الدول من التسلّح بعناصر القوة التي تُمكّنها من الدفاع عن سيادتها، انطلاقاً من اعتبارها ذلك تهديداً لأمنها القومي. ومن جهتها، تتبنّى الولايات المتحدة استراتيجية تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية الأمن القومي الإسرائيلي على حساب البلاد والشعوب العربية. وفي هذا السياق، لا تُخفي إسرائيل نياتها العدوانية تجاه العراق و«حشده الشعبي» وفصائله المقاوِمة. كذلك لا تخفي إيحاءاتها وتصريحاتها أن العراق يحتلّ مرتبة متقدمة في برنامج اعتداءاتها، على الأقلّ في الخطط الموضوعة في الدُّرج. ومن هنا، يأتي ما أدلى به رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء تامير هايمن، قبل أشهر، من أن العراق يشكل المجال البديل للتمركز الإيراني، وممرّاً إلى تعزيز محور المقاومة في سوريا ولبنان.
مع ذلك، ينبغي التأكيد أنّ من المستبعد جداً أن تلجأ إسرائيل إلى أي خطوة عملانية في الساحة العراقية من دون ضوء أخضر صريح أميركي، بالنظر إلى أن العراق ساحة مباشرة للإدارة الأميركية، وأي خطوات عملياتية فيها، هي أميركية بالدرجة الأولى، وإسرائيلية تنفيذية بالدرجة الثانية. ومن المؤكد أنه قبل انتقالها إلى حيّز التنفيذ، تُدرَس من زاوية مفاعيلها وعواقبها السلبية أو الإيجابية على الاستراتيجية الأميركية في العراق والمنطقة. لكن في الأداء الإعلامي الإسرائيلي، جرى التعامل مع الحوادث الأخيرة في العراق بطريقة توحي بالمسؤولية الإسرائيلية عنها، من دون أن يكون واضحاً ما إن كان ذلك ناتجاً من تلميحات أو تسريبات من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أو من اجتهادات إعلامية انطلاقاً من المعرفة المسبقة بأن إسرائيل تتربّص بـ«الحشد الشعبي»، وترى فيه أحد عناصر القوة الإقليمية التي ينبغي تفكيكها وإضعافها.
أياً يكن، فإن الحقيقة التي لا لبس فيها، أنه مع أو دون دور إسرائيلي مباشر في الاعتداءات التي شهدها العراق حتى الآن، فإن «الحشد» كان ولا يزال وسيبقى على المهداف الإسرائيلي، وإن العراق كان ولا يزال يحتلّ أولوية متقدمة في العقيدة الأمنية الإسرائيلية.