كذلك، يلاحَظ أن قطاعات التيار الإسلامي الراديكالي في السودان ترفض بقوة الوثيقة، لا سيما لناحية نصّها على مدنية الدولة وتجنّبها النصّ على أن الإسلام هو دين الدولة (في خلط بين الوثيقة الدستورية والدستور)، وهي (أي تلك القطاعات) تعوّل على عامل الوقت في ظهور تناقضات الوثيقة. كما يعوّل التيار الإسلامي على إجراء الانتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية للعودة إلى تصدر المشهد السياسي، بحسب ادعاءات متواترة من قياداته، ووسط اتهامات متكررة بالإقصاء منذ عزل عمر البشير.
وفيما تراجعت قدرة «الترويكا العربية» في السودان (السعودية، الإمارات، مصر) على التأثير في اللحظات الأخيرة في حسم مسألة توقيع الوثيقة (خاصة بعد فشل القاهرة في تقريب وجهات النظر بين «الجبهة الثورية» و«قوى الحرية والتغيير» قبيل ساعات من موعد التوقيع)، برزت إثيوبيا والوسيط الأفريقي كقوة دافعة باتجاه الحسم. كما تمثل ذلك الغياب في تراجع التمثيل الدبلوماسي لتلك «الترويكا» في الاحتفال، مقارنة بالحضور الرئاسي لأغلب دول جوار السودان (تشاد، إثيوبيا، أفريقيا الوسطى، جنوب السودان)، وما حظي به رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، من تقدير خاص وملفت خلال المراسم وما بعدها.
لا ضمانات بتحقيق انتقال ديمقراطي، ولا مؤشرات على قدرة الحكومة على القيام بإصلاحات
لكن، لا يمكن استبعاد وجود آلية لتقسيم العمل في السودان تبقى سارية في المرحلة المقبلة، خاصة أن البلد يواجه تحديات هائلة لا يخفف من وطأتها وضرورة مجابهتها بقوة التوصل للاتفاق. فقد واصلت إثيوبيا والاتحاد الأفريقي جهود الوساطة بدعم سياسي كبير ــــ بحسب مراقبين غربيين ــــ من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج (الترويكا)، وبما يتسق مع الدور الإقليمي الإثيوبي التقليدي (المدعوم على إطلاقه من واشنطن) في المنطقة. كما يسعى السودان إلى تعاون أوثق عسكري ــــ أمني مع جنوب السودان وتشاد من أجل كسب قوة تفاوضية أكبر إزاء جماعات المعارضة المسلحة (أو قوى «الجبهة الثورية» التي تفادت الوثيقة تسميتها). وتتطلّب رؤى الإصلاح الاقتصادي في المرحلة الانتقالية دعماً مالياً وتنموياً كبيراً من مجموعة من المانحين، وتنفيذ سياسات «تقنع» واشنطن برفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، لتمكينه من «تطبيع» علاقاته مع المؤسسات الدولية، ومن ثم إعفائه من ديون مستحقة عليه تتجاوز 50 بليوناً من الدولارات. وقد رفضت واشنطن بالفعل اقتراحات طرحها مسؤولون ووسطاء من أجل رفع اسم السودان من اللائحة المذكورة «تشجيعاً» له، لكن يتوقع أن تعمد واشنطن في المرحلة المقبلة إلى تخفيف شروطها لتمكين الخرطوم من نوع من «التطبيع» الاقتصادي والسياسي.
وانطلاقاً من هذا المأزق، يظلّ على السودان ــــ الذي أكد قادته الجدد أن «أمن السعودية خط أحمر» ــــ استئناف سياسات البشير الخارجية باستمالة الدعم والمساعدات من دول الخليج، ومن بعض الأطراف الإقليميين (مثل تركيا)، لكن من دون وجود هامش كبير من المناورة التي اعتادها البشير. ومن ثم، فإن إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني ستعتمد في المرحلة الانتقالية على دور إقليمي بارز يوحي بتقييد السياسة الخارجية السودانية، فيما لم يقدم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعوداً صريحة بدعم الاقتصاد السوداني مرحلياً حتى اللحظة.
وبلا شك، فقد خرج المجلس العسكري الانتقالي منتصراً في معركة التفاوض مع قوى الثورة السودانية، إذ نال المجلس رئاسة مجلس السيادة ــــ الذي سيكون الحاكم الفعلي للبلاد في المرحلة الانتقالية ـــ في الفترة الأولى (والأطول) من تلك المرحلة التي ستستغرق 21 شهراً. واللافت، هنا، هو احتفاظ نائب رئيس «العسكري»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بمنصبه في «السيادي»، في استنساخ موحٍ في دلالاته. كما احتفظ الجنرالات بحق تعيين وزيري الدفاع والداخلية لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي السوداني، وهو ما يضمن استمرار «استقلالية» المؤسسة العسكرية والأمنية عن بقية مكونات الحكومة الانتقالية التي ترشحها «قوى الحرية والتغيير» ويعتمدها مجلس السيادة.
وفي المقابل، نجحت «قوى الحرية والتغيير» في تحقيق كثير من مطالب الثوار، خاصة في مجال الحريات الفردية (وإن ضمّت الوثيقة بنوداً يمكن تأويلها لتصبح تقييدات). كما حققت نقلة نوعية في اختيار رئيس وزراء مشهود له بالخبرة والكفاءة الحقيقيتين، والاستحواذ على ثلثي مقاعد المجلس التشريعي، وتولي رئاسة المجلس الرئاسي في الفترة الثانية من المرحلة الانتقالية لمدة 18 شهراً. وهي نجحت، أيضاً، في وضع المجلس العسكري أمام مسؤولياته، ودفعه إلى تبنّي خطاب أكثر توافقاً مع قوى المعارضة والتغيير والحكم المدني، ولو إلى حين.