تشهد المسيرة السياسية لعبد الكريم الزبيدي قفزات متسارعة. يوم وفاة رئيس الجمهورية في 25 تموز/ يوليو، كُلّف الرجل، بوصفه وزيراً للدفاع، تنظيم الجنازة الرسمية الأولى من ناحية الحجم والمكانة منذ إعلان الجمهورية. مضت ترتيبات الجنازة كما خُطّط لها، وتركت في العموم انطباعاً إيجابياً لدى الناس، لكن في الأثناء كانت تجري في الكواليس تحضيرات لوراثة الفقيد. بينما كان الرئيس الراحل يُودَّع إلى مثواه الأخير، بدأ الإعداد لحملة ترشيح الزبيدي لخلافته. على عجل، خُلقت في مواقع التواصل الاجتماعي صفحات مموّلة للغرض، وبدأت وسائل إعلام في التحرك في اتجاه خلق رأي عام مساند. ارتكزت الحملة في بدايتها على «خصال» مفترضة لدى الزبيدي، أبرزها التكتم والخبرة التكنوقراطية وبُعدُه عن صراعات الأحزاب وأخذه مسافة واحدة من الجميع، ويُختصر كلّ ذلك بوصف «رجل دولة». قبل عشرة أيام، توجه الرجل إلى مقرّ هيئة الانتخابات لتقديم أوراق ترشحه محاطاً بعشرات من المساندين الذين ظهروا فجأة، بينهم نواب برلمانيون قدموا له التزكيات الضرورية لاكتمال الملف. بدت الصورة قريبة من الكمال، لكن خصوم الزبيدي التقطوا تفصيلاً واحداً أفسد المشهد، وهو جاء نتيجة للارتجال الذي بُنيت عليه الحملة. عندما كان المرشح يهمّ بالإجابة عن بعض تساؤلات الصحافة، كان إلى جانبه شخصان، رجل وامرأة، وكانا يلقّنانه ما يقول، ويحاولان إسكات الصحافيين. تبيّن لاحقاً أن المرأة مستشارة إعلامية عملت سابقاً مع شخصيات سياسية بارزة، أما الرجل فهو ناشط جمعياتيّ ومرشح للبرلمان. مثّل الأمر برمته فضيحة، لأن الزبيدي بدا عاجزاً عن تكوين جملة مفيدة دون تدخل منهما.
مع ذلك، تواصلت الحملة، وكان من ضمنها تقديم الزبيدي استقالته من منصب وزير الدفاع، وذلك لوضع حدّ للعلاقة مع رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، والتأكيد أنه «رجل دولة» يرفض استغلال منصبه لغايات انتخابية. لدى تقديمه الاستقالة، تعمّد الوزير إرسالها إلى رئيس الجمهورية المؤقت، لكن هذا الأخير أعاد توجيهها إلى الحكومة التي ستنظر فيها خلال اجتماع مجلس الوزراء الأسبوع المقبل.
هذه القطيعة الفجائية مع رئيس الحكومة أفرزت دعماً للزبيدي من نجل رئيس الجمهورية، حافظ قائد السبسي، الذي يرأس أيضاً أحد أجنحة حركة «نداء تونس» المعارضة للشاهد. أيضاً، دعمت حركة «آفاق تونس» ترشح الزبيدي للرئاسة، وهي بدورها تعارض رئيس الحكومة منذ انسحابها المبكر من التحالف الحاكم. لكن العداء الذي صار يبديه وزير الدفاع المستقيل تجاه الشاهد لا يقوم على أسس أيديولوجية، بل على العكس، حيث تُظهر الوعود الخمسة التي أعلنها أمس أنه يتنافس مع رئيس الحكومة على إرث رئيس الجمهورية الراحل، ما يعني بالضرورة أنه ينافسه على تحصيل أصوات القاعدة الانتخابية عينها ودعم الأحزاب والفاعلين أنفسهم. يتعهّد الزبيدي بالعمل على «تحقيق مصالحة وطنية شاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً»، وهو أمر وعد به قائد السبسي ونجح في تطبيقه جزئياً عبر إسقاط «قانون الفرز السياسي» الذي كان مصمماً لإقصاء كوادر النظام السابق من الترشح للانتخابات، وعبر تمرير «قانون المصالحة الإدارية والاقتصادية» الذي يعفو عمّن ارتكب تجاوزات في الميدانين (أُبقي في الأخير على الشقّ الإداري فقط).
يقول الزبيدي أيضاً إنه سيعمل على «إعلاء الحقيقة» في «ملفات الاغتيال والتسفير والجهاز السري»، والمقصود هنا ملفات اغتيال القياديَّين اليساريَّين شكري بالعيد ومحمد البراهمي. أما «التسفير»، فيرتبط بالمتطرفين الذين سافروا إلى سوريا خاصة، و«الجهاز السري» يمثّل جزءاً مزعوماً غير معلن من «حركة النهضة» الإسلامية يرتبط بدوره بالعنصرين السابقين. تعهد قائد السبسي قبل انتخابه بكشف المسائل ذاتها، وقد استقبل حينها عائلتَي الضحيتين كجزء من حملته، وعمل على موضوع «الجهاز السري» وهو رئيس للجمهورية، من دون أن يكشف فعلياً عن أي جديد. الوعد الثالث هو «إعادة فتح سفارة تونس في دمشق» بحلول بداية العام المقبل. ويمثّل هذا الوعد أيضاً تكراراً لما قاله الرئيس الراحل، وقد فشل في تحقيقه لوجود ضغوط غربية، وكلّ ما استطاع تحقيقه، إعادة فتح قنصلية تونس في دمشق وتفعيلها، خاصة في ما يتعلق بالتنسيق الأمني. يرتبط الوعد الرابع بمكافحة الإرهاب، وهو أمر طبيعي لأيّ مسؤول في الدولة. أما الوعد الخامس، فهو مثير للاهتمام، ويرتبط بـ«تقديم مشروع استفتاء لتعديل الدستور والمنظومة السياسية والانتخابية». أثار الرئيس الراحل موضوع تعديل الدستور في الفترة الأخيرة من حكمه، وعكس ذلك رغبته في توسيع صلاحيات رئاسة الجمهورية، ومثّل ردّ فعل على حالة الإحباط التي واجهها بعد دخوله في صراع مع رئيس الحكومة، صاحب الصلاحيات التنفيذية الأوسع.
بتقديمه هذه النقاط الخمس، يضع عبد الكريم الزبيدي نفسه ضمن «وارِثي» الرئيس، لكن الأهم من ذلك، إعلانه ارتداده عن جزء مهم من الأسس التي قامت عليها الدعاية الأولية له، والتي تدور حول صورته مرشحاً توافقياً. الآن، لم يعد الزبيدي تكنوقراطياً محايداً، بل دخل صراعات السياسة من بوابة إرث قائد السبسي، التي من أركانها معاداة الإسلاميين وخلق حالة استقطاب معهم. المفارقة هنا، أن الزبيدي، على عكس الرئيس الراحل، عمل وزيراً للدفاع في حكومة الإسلاميين الأولى إلى حدود عام 2013، أي في ذروة تدفق المتطرفين نحو بؤر التوتر وتصاعد العنف في البلاد، ولم يكن له قطّ موقف علني معارض لهم.