إلى جانب حراكهم العسكري في «بلاد الرافدين» عموماً، وفي المحافظات الشمالية خصوصاً، يسعى الأميركيون إلى حصر التوجه الديني لمسيحيّي سهل نينوى بـ«الكنيسة الإنجيلية». هو زرعٌ يراد أن تُقطف ثماره في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لمصلحة دونالد ترامب، إلا أن المتطوّعين كثر، في لحظة التقاء المصالح على ضرورة «اقتلاع» شجرة «الحشد». مسعود برزاني وأسامة النجيفي «فلاحان» في «سهل» تزرعه واشنطن على طريقتها. قد يلتمس «الزعيمان»، ومن معهما، لاحقاً، مساوئ انخراطهم في مشروع يسعى إلى تبديل «عقيدة» مكون عراقي بناءً على رغباتهم ومصالحهم الآنية، مقابل مصلحة إدارة قابعة في غرب العالم، تسعى إلى تكريس مفاهيم «إسرائيلية» بشتى الطرق.بعد أيام من إعلان وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على أربعة عراقيين، من بينهم آمر «اللواء 30» في «الحشد الشعبي» (لواء الشبك)، المنتشر في منطقة سهل نينوى شمال البلاد، وعد قدّو، وقائد «كتائب بابليون» (قوة من المسيحيين الكلدان تعمل ضمن صفوف «الحشد»)، ريان الكلداني، تم التوجيه حكومياً بالبدء في تنفيذ خطة إعادة انتشار القوات الأمنية عموماً، و«اللواء 30» في «الحشد» خصوصاً، بما يعني تسليمه مواقعه الخمسة في المناطق الواقعة بين سهل نينوى ومركز مدينة الموصل (كوكجلي، والشلالات، والتحرير، والسلامية، وبعشيقة) لقوات الشرطة المحلية. تعاقبٌ يطرح علامات استفهام حول خلفية ما يجري في المحافظة الواقعة شمال العراق، والذي يبدو أن ثلاثة مسارات داخلية وخارجية تتداخل فيه.
في المسار الأول، تبدو بصمات واشنطن واضحة، لناحية السعي إلى تغيير التوجه العقائدي للكنيسة الكلدانية في تلك المنطقة، وتحويل المؤمنين بها إلى أتباع لـ«الكنيسة الإنجيلية» (التي تدعو إلى قيام دولة «إسرائيل الكبرى»). وهو ملف يتابعه نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، بشكل شخصي ومباشر، وفق معلومات «الأخبار». والجدير ذكره، هنا، أن الكلداني كان قد أعلن في تصريح له «(أننا) منعنا منظمات أميركية وأخرى غير معروفة من العمل في تلك المنطقة... إنها إسرائيلية وترتبط بالموساد، وهذا خطرٌ على مجتمعنا المسيحي»، مضيفاً إن «السفارة الأميركية تواصلت معي عبر وسطاء، ودعتني إلى طاولة مفاوضات لاستمالتي، لكنني رفضت... هم يريدون منا الانبطاح لهم».
ولا يبدو توقيت تزخيم العمل على هذا الملف عادياً؛ إذ مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، تُولي إدارة الرئيس دونالد ترامب أهميةً قصوى للحفاظ على أصوات الناخبين «الإنجيليين»، المتعاطفين مع «الأقليات المسيحية» (المضطهدة) حول العالم، والذين يمثلون عماد الجماهير «الترامبية». لكن الأمر ليس مقتصراً على مصالح انتخابية، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، وفق ما يؤكد مصدران كنسيّان لـ«الأخبار»، متحدثَين عن مساعٍ «مجهولة التمويل» لتهجير المسيحيين السريانيين والكلدانيين من العراق عموماً وسهل نينوى خصوصاً، بالتوازي مع نشاط كبير لـ«الإنجيليين» هناك. ويرى أحد المصدرين أن مشروع «التهجير» يخدم إسرائيل، الساعية إلى «إبادة العرق السامي لأبناء حضارة ما بين النهرين»، من كلدان وآرام وآشور.
نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، يتابع ملف سهل نينوى بشكل شخصي ومباشر


هذا التوجّه بدأ العمل عليه منذ العام الماضي، حين سعّر الأميركيون هجومهم على «الحشد الشعبي»، متهمين إياه بمنع المسيحيين من العودة إلى ديارهم. وهو اتهامٌ تنفيه مصادر عراقية معنية، مؤكدة أن «الطريق سالكة أمام عودة جميع النازحين، وقد عادت آلاف العائلات منهم، وهذه مناطقهم شاهدة على ذلك». ويردّ قدّو، بدوره، على تلك الاتهامات، بالقول إن «اللواء 30 سهّل عودة النازحين المسيحيين، وهيّأ احتياجاتهم اللوجستية لعودتهم خلال الفترة الماضية، فضلاً عن تسهيله عودة نازحين شبكيين وتركمانيين إلى السهل» (71 قرية شبكية و14 تركمانية).
يذكر أن مسيحيّي سهل نينوى، من الكلدانيين والسريانيين، ينتشرون في ثلاثة أقضية هي: تلكيف، والشيخان، والحمدانية. وبين عامي 2003 و2018، انخفض عددهم من حوالى 1.5 مليون نسمة إلى 450 ألف نسمة، في وقت تذهب فيه إحصاءات إلى القول إن عددهم لا يزيد على 250 ألف نسمة.
في المسار الثاني، يحضر الحاكم الفعلي لـ«إقليم كردستان»، مسعود برزاني، الذي يبدو أن ثمة تقاطع مصالح بينه وبين المتشددين «الإنجيليين» النشطين في نينوى. إذ يسعى برزاني جاهداً إلى استعادة المناطق التي خسرها في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، عقب إجرائه «استفتاء الانفصال» في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه. المناطق المتنازع عليها يراها الرجل «حقاً مكتسباً» له، ولا يمانع الانخراط في أي مشروع أميركي من شأنه إعادتها إليه. في هذا الإطار، تفيد معلومات «الأخبار» بأن برزاني يأمل تشكيل «حزام بشري» موال له في المنطقة الحدودية بين العراق و«الإقليم»، لهدفين أساسيين: تغيير المزاج الشعبي في المناطق المتنازع عليها، توطئةً لعودة قوات «البيشمركة» إليها، وتمكين مجموعات محلية، على علاقة مباشرة بأجهزته المولجة بعمليات تهريب النفط، بإطاحة «الحشد الشبكي»، الذي يشكّل «خطراً» على أمن بعض الخطوط، في ظلّ توجيهات قيادة «الحشد»، الداعية إلى الحدّ من عمليات التهريب في مناطق وجودها. بناءً على ذلك، يصبح مفهوماً رفض قدّو عودة «البيشمركة» إلى تلك المناطق، وتأكيده أن «الديموقراطي الكردستاني هو من حفّز المنظمات الدولية، وقدّم تقارير مغلوطة عن الواقع في سهل نينوى لـ(الدفع في اتجاه) فرض عقوبات».
إلى جانب برزاني، يبرز القيادي في تحالف «الإصلاح والإعمار»، أسامة النجيفي، الذي يريد استعادة قرار المحافظة التي خرجت من يده، تحت ستار تطبيق توصيات «التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق النيابية حول الوضع في محافظة نينوى»، الصادر مطلع العام الجاري. من أجل ذلك الهدف، يدفع النجيفي في اتجاه إخراج «الحشد الشبكي» من سهل نينوى، كونه يمثل عقبة في طريق الرجل.
في المسار الثالث، تحضر آثار تلك الضغوط كلها على رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي. مصادر «الحشد» تتهم عبد المهدي بأنه أذعن لضعوط النجيفي والقوى الموصلية الأخرى، ومن خلفهم السفارة الأميركية، الذين احتجّوا على «ممارسات لواء الشبك في تلك المنطقة». ومن هنا، اتُخذ قرار «تسليم السيطرات» على رغم معارضة قيادة «الحشد» لهذه الخطوة، تقول المصادر في حديثها إلى «الأخبار»، مضيفة إن «موقفنا الرسمي يفرض علينا دعم عبد المهدي، ودعم حكومته، وبالتالي لا نريد تخريب العلاقة معها».
في المقابل، يرفض محافظ نينوى، منصور المرعيد، أي حديث من شأنه تحميل القضية «أكثر من حجمها»، موضحاً في حديثه إلى «الأخبار» أن «مشروع إعادة الانتشار نوقش منذ أشهر مع القيادات الأمنية في المركز»، مضيفاً إن «الخطة تقضي بتسلّم الشرطة المحلية زمام الأمور داخل المدن والقصبات، على أن تلزم الحشود المناطق الخاصة بها (الحشد العشائري ضمن مناطقه، والحشد الشبكي ضمن مناطقه)، أما الحدود فتُسلّم لقوات حرس الحدود، فيما يندفع الجيش إلى عمق الصحراء لإمساك الأرض هناك تحسّباً لعودة تنظيم داعش، ومنعاً لتكرار سيناريو حزيران/ يونيو 2014».