بغداد | بقايا أزقّة ضيقة، أحجار مرمرية متناثرة، وجدران مهدمة. هذا كل ما بقي من «المدينة القديمة» في الساحل الأيمن (القاطع الغربي) لمدينة الموصل، مركز محافظة نينوى. شبابيكها المستديرة، المسبوكة منذ أكثر من قرنين، هوت أمام عصف مئات العبوات الناسفة والقنابر (قذائف الهاون) المفلوقة، أثناء عمليات تحريرها من قبضة تنظيم «داعش». صورة قاتمة يرسمها أهالي تلك البقعة، التي اقترن ذكرها بـ«المنارة الحدباء» و«الجامع النوري الكبير». ليس وحدها في ذلك؛ فنسبة الدمار في مختلف أحياء «الأيمن» تبلغ أكثر من 50 في المئة (بشكل متفاوت). حال الأهالي هناك كحال غيرهم من المنتشرين شمالاً وغرباً وجنوباً حتى مناطق حزام العاصمة بغداد، حيث تتكرر صور الدمار وأشكاله، كأنها نسخٌ «كاربونية» تعمّد الإرهابيون صنعها، بعدما أصرّوا على مسك الأرض ومن ثم تفخيخها.كلفة سنوات النار والدم كانت باهظة. كبّدت الخزينة العراقية أكثر من 130 مليار دولار، توزّعت بين مصاريف عسكرية وأضرار بنىً تحتية وأموال منهوبة، فضلاً عن تدمير غالبية المناطق الأثرية في المحافظات التي أحكم «داعش» قبضته عليها. وزارة التخطيط العراقية قدّرت الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية للمدن المحرّرة بأكثر من 44 تريليون دينار (36 مليار دولار)، موزّعة على محطات إنتاج الطاقة الكهربائية ونقلها، والمؤسسات الصحية (مستشفيات كبرى ومراكز استشفاء)، وشبكة مياه الإسالة (الصالحة للشرب) والصرف الصحي، والمؤسسات التعليمية (الجامعات والمدارس ورياض الأطفال). وبخلاف تلك التقديرات، ووضع أطر وخطط نظرية، ومحاولات استجلاب أموال فشلت غالبيتها، لا تزال الحكومة (برئاسة حيدر العبادي سابقاً، وعادل عبد المهدي لاحقاً) عاجزة عن تحريك هذا الملف الشائك على نحو فعال.
وفي الانتظار، بادرت «ممثلية الأمم المتحدة في العراق»، مع أكثر من 170 منظمة دولية ومحلية، إلى إطلاق عجلة إعادة الإعمار في تلك المناطق، بالبدء بإعمار المنازل المهدمة، وتوفير مراكز صحية مؤقتة، وتأهيل عدد كبير من المرافق التعليمية، لتسريع عودة النازحين إليها، على اعتبار أن جزءاً من هذه المهمة يقع على عاتق «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» (UNDP)، لكن هذا الدور لا يمكن، بحسب مصادر عاملة في المجال، «التعويل عليه».

صلاح الدين... الأقل سوءاً
مع خفوت أزيز الرصاص، تتجه الأنظار إلى ناحية المحافظات الثلاث: نينوى والأنبار وصلاح الدين. هي تبدو أشبه بـ«وجبة دسمة» لجهات محلية وإقليمية ودولية؛ فما بعد الحرب والدمار أرقامٌ فلكية لإعادة الإعمار. محافظة صلاح الدين لا تشبه، في نسبة الدمار، أختَيها الغربيتين: الموصل والأنبار. «الحشد الشعبي»، رأس حربة القوات التي تولّت تحرير المحافظة، جنّب الأخيرة شبح الدمار، ولا سيما مركزها، مدينة تكريت. المدينة، ذات الكثافة السكانية الأكبر، قُدّرت نسبة الدمار فيها بأقل من 5 في المئة، وهي نسبة متواضعة جداً مقارنةً ببقية المدن والمحافظات المحرّرة. مع ذلك، تضرّرت نواحٍ وأقضية عدة من صلاح الدين بنسب متفاوتة، سُجّلت أكبرها (أكثر من 90%) في قضاء بيجي الاستراتيجي؛ لكونه صلة الوصل بين محافظتَي صلاح الدين ونينوى شمالاً، وكركوك شرقاً، والأنبار غرباً، ولاحتوائه على واحدة من أكبر مصافي تكرير النفط في الشرق الأوسط؛ وهما عاملان يبقيانه محور صراع داخل الحكومة المحلية من جهة، وبينها وبين الحكومة الاتحادية من جهة أخرى. وباستثناء بيجي، فإن وتيرة ترميم المحافظة الشمالية وتأهيلها أسرع بكثير من تلك الجارية في المحافظات الأخرى، وذلك مردّه الانسجام بين أعضاء الحكومة المحلية، وحراك نواب المحافظة المكثف في البرلمان (2016 ــــ 2018)، وحماسة أبنائها الكبير للتعاون مع الحكومة المركزية، في ظلّ تطوّع الآلاف منهم في «الحشدين» (الشعبي والعشائري) على السواء.
حصّة نينوى من الموازنة المالية لعام 2019 بلغت 1 بالمئة فقط


صراعات متشابكة غرباً
في غرب البلاد، تتشابك خيوط الصراع الداخلية والخارجية. تسعى الولايات المتحدة إلى حصر الاستثمارات بيد الشركات الأميركية الكبرى، وحتى الوسطى منها، فيما تدخل إيران، للمرة الأولى، مباشرة على خط المواجهة هناك؛ لأغراض اقتصادية من جهة، وجيوعسكرية من جهة أخرى؛ باعتبار المحافظات الغربية حلقة الوصل مع سوريا. أما اللاعب التركي، فليس خافياً أنه ينظر إلى «درّة» تلك المحافظات، مدينة الموصل، على أنها «حق طبيعي» له، استُقطع منه مطلع القرن الماضي. وعلى رغم أن كثرة الأطراف الراغبة في الاستثمار في المناطق الغربية يفترض أن يمثل عامل إنعاش لهذه المناطق، إلا أن تضارب المصالح والتنافس المحموم لا يزالان ينعكسان سلباً على عملية إعادة الإعمار، إلى جانب عوامل أخرى، في مقدمها «انتشار الألغام، وقلّة التخصيصات المالية»، بحسب ما ذكرت المديرة العامة لمنظمة «اليونسكو»، أودري أزولاي، في 16 كانون الثاني/ يناير 2019. وفي هذا السياق، يلفت عضو مجلس محافظة الأنبار، عذال عبيد، إلى أن «الحكومة المحلية تعاني من نقص المخصصات المالية غير المتناسبة مع وضع المحافظة، والتي تعرّضت غالبية بنيتها التحتية للدمار»، مشيراً في حديثه إلى «الأخبار» إلى أن «القطاعات الكبرى تعرّضت للدمار، ومنها التربية والصحة والكهرباء».

الموصل... الحلقة الأصعب
في نينوى (وتحديداً في الموصل)، كان الصراع ولا يزال مستعراً على بسط النفوذ. تتصارع الأحزاب «السنّية» على حكم المحافظة، فيما تدخل الأحزاب «الشيعية» طرفاً في المعادلة، بعدما أصبح لها حضور عسكري عبر بعض الفصائل. تسعى هذه الأحزاب إلى تفعيل عمل مكاتبها الاقتصادية، لإيجاد موارد تمويلية لها بشكل غير مباشر، عبر شركاء محليين من أبناء نينوى عموماً، وجنوب الموصل خصوصاً. مشاريع متكاثرة تكاد آثارها الإيجابية المفترضة على حياة الناس تكون معدومة، في ظلّ تفاقم أزمة الخدمات، واستمرار تعطّل عملية إعادة الإعمار.
وفي هذا الإطار، يقول الناشط المدني، علي العمري (أحد المؤسسين لحملات رفع الأنقاض من «المدينة القديمة»)، إن «المطلع على وضع الساحل الأيمن يدرك أن إعمار المناطق المحرّرة كذبة تسوّقها الجهات المتورطة بالفساد، لأنه على رغم مرور سنتين على التحرير، لا تزال المدينة تعاني نقصاً كبيراً في الخدمات، ولا سيما المناطق التي شهدت معارك ضارية»، مؤكّداً في حديثه إلى «الأخبار» أن «المخصصات المالية المرصودة لا تتناسب مع حجم الدمار، حتى إنها لا تكفي حيتان الفساد الذين ابتلعوا تلك الأموال». فحصّة نينوى من الموازنة المالية لعام 2019 لم تبلغ سوى ترليونَي دينار عراقي (1.7 مليار دولار)، أي 1 بالمئة من الموازنة الكلية للعراق، في وقتٍ يُفترض فيه أن تشكّل ما نسبته 9 بالمئة.
من جهته، يصف عضو مجلس المحافظة، خلف الحديدي، «نسبة الدمار الذي لحق بالمدينة» بأنها «كبيرة جداً»، مقدّراً الأضرار اللاحقة بـ«الساحل الأيمن» بنحو 8 بالمئة. ويشير في حديثه إلى «الأخبار» إلى أن «الحكومة المحلية قدمت كشوفات الأضرار إلى الحكومة المركزية وصندوق إعمار العراق، لكنها لم تتسلّم المبالغ اللازمة».



بين «الاجتياح» والتحرير
في 5 كانون الثاني/ يناير 2014، سيطر تنظيم «داعش» على مدينة الفلوجة (60 كيلومتراً شمالي غربي بغداد)، المعقل الرئيس للتنظيمات المسلّحة منذ عام 2004، لتكون بذلك أولى المدن العراقية التي يبسط الإرهابيون سيطرتهم عليها بالكامل. وفي 10 حزيران/ يونيو 2014، اجتاح التنظيم مدينة الموصل (405 كيلومترات شمالي بغداد)، بعدما هاجمها من جهتها الغربية، في خبرٍ صدم العالم أجمع قبل العراقيين، بالتوازي مع «تبخّر» أكثر من 51000 عنصر أمني بين ليلة وضحاها. تقدّم الإرهابيون سريعاً نحو الجنوب والغرب، حيث وصلوا إلى أسوار العاصمة بغداد في غضون أربعة أيام. سيطروا على عدد من المدن الكبرى، أبرزها الموصل وتكريت والرمادي والفلوجة والحويجة وسنجار وتلعفر والقائم وبيجي، لتبلغ مساحة سيطرتهم حوالى 40 بالمئة من إجمالي مساحة البلاد. في ذلك العام، نزح أكثر من 3 ملايين فرد عن مناطقهم، 87 في المئة منهم من محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، و13 في المئة من محافظتي ديالى وكركوك، ومناطق أخرى شمال العاصمة. وخلال شهري تموز/ يوليو، وآب/ أغسطس، من العام نفسه، أعادت القوات العراقية تنظيم صفوفها، لتبدأ أولى عمليات تحرير المدن في الأول من أيلول/ أغسطس، حين حُرّرت ناحية آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين. وبين عامي 2014 و2018، تمكّنت القوات العراقية على اختلافها من تحرير كامل الأراضي التي سيطر عليها التنظيم (45 مدينة حضرية، 20 ناحية، و16 قضاء)، وصولاً إلى الحدود العراقية ـــــ السورية، بعدما بسطت سيطرتها على قضاء راوة، في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017.
(الأخبار)