إسطنبول | بذلت أنقرة، منذ بداية الأزمة السورية حتى أواسط 2015، جهداً كبيراً لكسب حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردستاني» السوري، و«وحدات حماية الشعب» الكردية (الذراع السورية لحزب «العمال الكردستاني» التركي، العدو الصعب للدولة التركية) إلى جانبها، وإقناعهما بالتمرد ضد دمشق، لكنها فشلت، على رغم اختيار الكردي عبد الباسط سيدا رئيساً لـ«المجلس الوطني السوري» المعارض، ومعه الكردي غسان هيتو رئيساً لحكومة المنفى التابعة للمجلس. لم تقدّر دمشق آنذاك هذا الموقف الكردي السوري الرافض للتعاون مع أنقرة، وتركت أكرادها عرضة لتجاذبات ومنافسات إقليمية ودولية دفعتهم في نهاية المطاف إلى الاستنجاد بأميركا، ومعها فرنسا وبريطانيا لتحميهم من تركيا التي تحارب «العمال الكردستاني» منذ 40 عاماً. كان هذا الاستنجاد سبباً للوجود الأميركي الحالي في شرق الفرات، بكل تعقيداته الكردية والعربية، بعدما سيطرت «وحدات الحماية» على الشارع الكردي، الذي فيه من يعترض على وجود الأميركيين، حاله حال العديد من العشائر العربية. ساهم فشل الحوار بين دمشق والأكراد ولا يزال في ترسيخ الواقع الحالي، الذي باستمراره، لن يكون سهلاً على الدولة السورية معالجة انعكاساته على أمنها الاستراتيجي؛ وخصوصاً أنها تغطي معظم احتياجاتها من البترول والغاز والقمح والمنتجات الزراعية، والأهم المياه، من هذه المنطقة، التي إن بقيت هكذا فسوف تؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم سوريا، مع بقاء الاحتلال الأميركي والبريطاني والفرنسي لدعم أطماع إسرائيل في مياه الفرات وغيرها.ربما يحرّض مثل هذا الاحتمال، تركيا، التي تسيطر على منابع الفرات ودجلة وأنهار أخرى، على البقاء غرب الفرات من جرابلس إلى عفرين على طول الحدود المشتركة بطول 350 كلم تقريباً، وذلك بالتنسيق والتعاون مع حوالى 50 إلى 60 ألفاً من عناصر مختلف الفصائل المسلحة، ومنها فصائل تركمانية. تتحدث وسائل الإعلام العربية والدولية باستمرار عن مساع تركية لـ«تتريك» هذه المنطقة من خلال تقديم مختلف الخدمات، وهو ما تفعله مع النازحين السوريين الموجودين في تركيا ليتحولوا إلى حاضنة اجتماعية لأي مشروع تركي لاحق في سوريا، التي دخل الجيش التركي إلى شمالها بضوء أخضر روسي في 24 آب 2016، أي في الذكرى الـ 500 لدخول السلطان سليم إلى سوريا بعد معركة مرج دابق التي تبعد عن جرابلس حوالى 60 كلم. كان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يتحدث قبل ذلك باستمرار عن إحياء فكرة «الميثاق الوطني» لعام 1920، وإعادة النظر في اتفاقيتَي لوزان لعامَي 1923 و1925 اللتين رسمتا الحدود الحالية للجمهورية التركية التي ضمّ إليها أتاتورك عام 1938 منطقة هاتاي (أي لواء إسكندرون). ضمّت خريطة «الميثاق الوطني» الشمال السوري بأكمله، بما في ذلك حلب، ومعه الشمال العراقي، أي ولاية الموصل التي تشمل الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك التي يعيش فيها التركمان بكثافة. وكان الرئيس الراحل، تورغوت أوزال، قد أمر الجيش باجتياح الشمال العراقي وضمه إلى تركيا عام 1991 بعد هزيمة صدام حسين في حرب الكويت. رفض رئيس الأركان، نجيب تورومتاي، هذا الطلب، على رغم ترحيب كل من جلال طالباني ومسعود برزاني بهذه الفكرة، التي يبدو أن إردوغان يتحمّس لها، ليحقق ما فشل فيه أوزال ومن قبله أتاتورك. وقد سعى إردوغان في إحيائها مرّتين: أولاهما عندما كانت علاقات أنقرة جيدة مع زعيم «الاتحاد الديموقراطي الكردستاني» صالح مسلم؛ والآن، عبر وجوده العملي غرب الفرات، وبضوء أخضر من روسيا التي دخلت في تحالفات مصلحية معقدة مع تركيا على حساب الأمن الوطني لسوريا، التي ومن خلال أزمتها كسب الرئيس فلاديمير بوتين صداقة إردوغان.
أيّ مصالحة سورية ـــ تركية ستكون كفيلة بفتح أبواب «المعجزات» في الملف السوري


يفسّر الوضع الحالي غرب الفرات نيات إردوغان الذي يتهرب من الالتزام بتعهداته في اتفاقيات سوتشي وأستانا، وخصوصاً في ما يتعلق بإدلب التي تسيطر عليها «جبهة النصرة» (أي «هيئة تحرير الشام») والفصائل المتحالفة معها التي وقّع إردوغان باسمها وباسم كل الفصائل الأخرى الاتفاقيات المذكورة. اعترفت هذه الاتفاقيات بشرعية الوجود التركي العسكري في الشمال السوري، وبالتالي بالدور التركي الأساسي في مجمل الصيغ السياسية الخاصة بالحل المحتمل للأزمة السورية، بما في ذلك صياغة الدستور الجديد وإجراء الانتخابات لضمان فوز أنصار إردوغان.
جاء فشل إردوغان في كسب الأكراد، على رغم كل الإغراءات التي قدّمها لهم بما في ذلك إعطاؤهم حصة الأسد في «سوريا الفدرالية الجديدة»، ليعرقل مجمل حساباته التي كادت تصل إلى نهاية النفق المظلم، لولا بوتين الذي أنقذه بعد اعتذار الأول منه في حزيران 2016 على إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني 2015. بعدها، تحدث الإعلام عن دعم روسي سريع وفعال لإردوغان خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز 2016. كان هذا الاعتذار، ولقاء إردوغان ــــ بوتين في آب 2016، ودخول الجيش التركي بعدها بأسبوعين جرابلس، فاتحة لعلاقات سياسية واقتصادية عسكرية واستخبارية وشخصية معقدة وواسعة جداً، انتهت الآن بوصول معدات صواريخ «إس 400» إلى قاعدة «مرتد» القريبة من أنقرة، في الوقت الذي كانت فيه الطائرة التي تقلّ السفير الأميركي الجديد، ديفيد ساترفيلد، المعروف لدى الإعلام والساسة العرب، تحط في مطار أنقرة الدولي. ومن الصدف، وربما المقصودة، أن قاعدة «مرتد» بناها الأميركيون عام 1950 عندما انضمت تركيا إلى حلف «شمالي الأطلسي» واستخدموها حتى عام 1996.
لم يكن التحالف التركي ــــ الروسي كافياً لمعالجة الوضع شرق الفرات، وكأن الجميع راضٍ عن هذا الوضع الراهن، أي بقاء كلّ في مكانه شرق الفرات وغربه، طالما أن الدولة السورية بوضعها الداخلي بلا حول ولا قوة. وهي لم ولن تستطيع معالجة الوضع الداخلي الصعب والمعقد بأساليب السلطة القديمة، وانعدام المعلومات والخبرة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، حيث كان البعض في دمشق يعتقد في بدايات الأزمة أن الجيش والأمن السوريين سيقضيان على الإرهابيين خلال أيام وأسابيع قليلة. كما لن تستطيع الدولة السورية أن تُخرج تركيا من غرب الفرات وأميركا من شرقه بسبب وضعها الضعيف الناتج من أخطائها في الرهان على التناقضات الروسية ــــ التركية ــــ الإيرانية، وانعكاسات ذلك على علاقات الأطراف الثلاثة مع إسرائيل، وبالتالي الأهمية البالغة التي توليها كل من موسكو وطهران لإردوغان.
كانت هذه التناقضات سبباً لفشل دمشق في حوارها مع الأكراد، الذين ارتكبوا هم أيضاً الكثير من الأخطاء، وأثبتوا أنهم لم يستخلصوا الدروس من تجارب الماضي، وخصوصاً في العلاقة مع الغرب. فقد خدعت الولايات المتحدة وكل الدول الغربية الأكراد منذ التراجع عن اتفاقية «سيفر»، حين كانت سوريا بعد ذلك الدولة الإقليمية الوحيدة التي لم تقاتل الأكراد، كما فعلت تركيا وإيران والعراق. احتضنت دمشق دائماً الحركات الكردية، العراقية والإيرانية، ولولاها لما وصل حزب «العمال الكردستاني» إلى ما وصل إليه الآن؛ إذ استقرّ زعيمه عبد الله أوجلان ومقاتلوه في سوريا وسهل البقاع اللبناني في الفترة ما بين 1980 و1998، عندما كان الحزب يقاتل تركيا. نسي أكراد سوريا «اليساريون» أن حليفتهم الحالية، الولايات المتحدة، هي التي قامت في شباط 1999 باختطاف زعيمهم عبد الله أوجلان من كينيا، وسلّمته إلى تركيا حيث هو موجود في السجن منذ ذلك التاريخ. شهدت القضية الكردية بعد ذلك تطورات مثيرة أوصلتها إلى ما هي عليه الآن في الشمال العراقي وشرق الفرات، مع ما للأمر من انعكاسات على الحسابات التركية باعتبار أن «وحدات حماية الشعب» هي الذراع السورية لـ«العمال الكردستاني» التركي الذي أثبت أخيراً أنه «مفتاح الديموقراطية» في تركيا أيضاً. فقد كان لحزب «الشعوب الديموقراطي» (الجناح السياسي لـ«العمال الكردستاني») دور أساسيّ في انتصار مرشحي المعارضة في انتخابات إسطنبول وأنقرة و20 ولاية أخرى، فيما فاز الحزب في 8 ولايات جنوب شرق تركيا. ويعرف الجميع أيضاً أن استمرار هذا التحالف الكردي مع المعارضة التركية بأطيافها كافة سوف يكون كافياً خلال المرحلة المقبلة لإسقاط حكم «العدالة والتنمية»، مع اقتراب موعد تمرد الثنائي عبد الله غول ــــ علي باباجان. قد يزعج مثل هذا الاحتمال إردوغان الذي سيجد نفسه في مأزق خطير. وباستمرار الدعم الأميركي والفرنسي والبريطاني والسعودي والإماراتي لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية، فإنها إن أرادت أو أُجبرت على ترسيخ كيانها الحالي شرق الفرات، فستضع تركيا أمام تحديات خطيرة جداً، لأن معظم أكراد المنطقة يعيشون داخل حدودها (ليس أقل من 20 مليوناً)، مقابل 3 ـــ 4 ملايين في سوريا، و5 ــــ 6 ملايين في العراق، و7 ــــ 8 ملايين في إيران.
يقول البعض إن مثل هذا الاحتمال قد يحرّض إردوغان على البقاء في غرب الفرات، وخصوصاً إذا اتفق مع الأميركيين على أن لا يشكّل الكيان الكردي في سوريا خطراً على تركيا التي ستهتم حينها بمكاسبها الحالية والمستقبلية في الشمال السوري وسوريا عموماً، بما في ذلك إقامة كيان تركماني في الشمال، وإشراك الإسلاميين في السلطة. يعرف الجميع جيداً أنه باستمرار الخلاف بين إردوغان والأسد، فإن كل الأطراف الإقليمية والدولية ستبقى مستفيدة من هذا العداء، طالما أن إيران وروسيا، الحليفتين للأسد، فشلتا حتى الآن في إنهائه. يبدو واضحاً أن أي مصالحة سورية ــــ تركية ستكون كفيلة بفتح كل الأبواب لـ«المعجزات» في الملف السوري، وبأن تساهم أيضاً في التوصل إلى إنهاء الأزمة الكردية سورياً، وبالتأكيد تركياً ومن ثم عراقياً، بل وحتى إيرانياً أيضاً، لكن بعيداً من منطق التهديد والقتل والدمار، كما هي الحال منذ 70 أو 80 سنة.