سيكتب التاريخ أن «مليونية 30 يونيو» كانت لحظة فارقة في مسار الثورة السودانية، دفعت ثلاثة لاعبين أساسيين إلى تغليب خيار التفاوض والتعجيل به، هم: العسكر، بعض فصائل «قوى الحرية والتغيير» والقوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المشهد السوداني. فمن جانب المجلس العسكري، كانت كل مجريات الأحداث منذ إزاحة الرئيس عمر البشير تؤكد بشكل لا لبس فيه أن ما حدث انقلاب عسكري وليس انحيازاً إلى الحراك الشعبي، وأنه تم بعلم ودعم إقليميين من السعودية والإمارات، في محاولة لاحتواء الثورة والتوقف بها عند هدف تغيير رأس النظام، توطئة لإعادة إنتاج «الإنقاذ» بثوب جديد.حفاظاً على السلطة، ظل المجلس يتفاوض، ثم يتنصّل ويتلكأ ويواصل كل ممارسات حكومة «الإنقاذ» القمعية، ثم ينسبها إلى طرف ثالث مجهول، حتى بلغ الذروة بفض اعتصام القيادة العامة بمجزرة مروعة. ولأنه ظنّها قاصمةً لظهر الحراك، فقد بادر إلى إعلان فضّ شراكته مع «الحرية والتغيير»، ومزّق الاتفاق، وبدأ يعمل على تشكيل حاضنة اجتماعية وسياسية ليمرّر عبرها إعلان حكومة مدنية خاضعة لسيطرته بشتى الوسائل، حتى إنه تعاقد مع شركة «ديكنز أند مادسون إنك» الكندية، بقيمة 6 ملايين دولار، بهدف تجميل صورته ومساعدته في الحصول على قبول دولي، بحسب ما كشف، أخيراً، مدير الشركة، العميل السابق لدى الموساد أري بن ميناشي، مؤكداً أن ذلك «تم بناءً على نصيحة من دول خليجية صديقة للسودان».
انقلبت المعادلات تماماً بعد التظاهرات التي اجتاحت كل مدن السودان وقراه، والتي أُطلق عليها «مليونيات 30 يونيو»، وسقط إلى الأبد خيار الانقلاب، بعدما أدرك العسكر والمحور الإقليمي الداعم له أن العودة إلى التفاوض أفضل بكثير من مواجهة المد الثوري، الذي تصاعد بعوامل الغضب الممزوج بحالة من الرغبة في الثأر، بسبب ما جرى للمعتصمين أمام مقر القيادة العامة. هذا ما دفع «العسكري» إلى القبول بالعودة إلى التفاوض مع «الحرية والتغيير»، تحت رعاية الوساطة الإفريقية ــــ الإثيوبية المشتركة، ومن ثم التوصل إلى اتفاق. سلّم محور الإمارات والسعودية بفشل مخططه، وبدأ يسوّق لمشروع الحكومة المدنية، على غرار حلفائه، الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي اشترطت وجود تلك الحكومة لتطبيع العلاقات مع الخرطوم. لكن يبدو أنه تسليم مؤقت؛ إذ بات من المعلوم أن مصلحة المحور، والخليج عموماً، في السودان، تتناقض تماماً مع أي مشروع يؤدي إلى قيام نظام مدني ديموقراطي. وقد شهد العالم، على سبيل المثال، كيف أن قضية خارجية كتورط السودان في الحرب على اليمن، تحولت إلى صخرة تصطدم بها كل محاولة للتغيير الداخلي.
من جانب قوى «الحرية والتغيير»، فإن هذا التحالف عبارة عن تحالف سياسي عريض بخلفيات فكرية ومصالح اجتماعية متباينة، يضمّ قوى من اليمين واليسار الشيوعي والقومي الناصري والبعثي والوسط ويسار الوسط. بعض هذه الأطراف تعبر عن قوى اجتماعية، وأخرى لها ارتباطات سياسية، ليس من مصلحتها وصول الثورة إلى غاياتها النهائية، بل إن هذه الغايات في حقيقتها تشكل تهديداً وجودياً لها بنفس القدر الذي تشكله لنظام «الإنقاذ». لذلك، لا يحقق الاتفاق مصلحة الطرف الثاني فقط، وهو المجلس العسكري ومن يقف خلفه، بل حتى مصلحة بعض قادة الثورة، الذين منهم من كان يعمل سراً ومن خلف ظهر شركائه، مثل تكتل «نداء السودان»، الذي يترأسه رئيس حزب «الأمة القومي» الصادق المهدي، الحزب الأكبر في التكتل، إلى جانب أحزاب أخرى وحركات مُسلحة. كان هذا التكتل، إلى لحظة انفجار الثورة، يفاوض النظام السابق حول ما عرف حينها بـ«الهبوط الناعم»، ثم اضطر إلى مجاراة الثورة، عسى أن يصل عبرها إلى ما عجز عنه بالتفاوض.
تختلف أطر العمل السياسي في هذه الثورة نوعيّاً عن كل التجارب السابقة


على أي حال، تبدو خلاصات الاتفاق متذبذبة، وغير حاسمة في هوية السلطة، وهي أقرب إلى تسوية تحقق سلاماً هشاً، لكنها قطعاً لن تحقق سوى حرية سياسية، لا تلك الاجتماعية التي تقوم على دعائم التنمية وعدالة توزيع الثروة، بعيداً عن الاستغلال داخلياً والتبعية خارجياً، وهي التي سقط من أجلها «شهداء الثورة». أيّ متابع دقيق للحالة السودانية سيكتشف أن الاتفاق في وعي السودانيين خطوة إلى الأمام، وقيمة مضافة على أدوات الثورة. إنه ببساطة درجة متقدمة، كما عبّر القيادي الشيوعي وعضو وفد التفاوض عن «الحرية والتغيير» صديق يوسف، الذي منح الاتفاق «درجة سبعة من عشرة». فالاتفاق يضع لأول مرة جزءاً غير يسير من قوة السلطة بيد الثوار، ويجرّد «الثورة المضادة» من سلاح السلطة، ويحقق حرية سياسية تمهد الطريق لاستكمالها بالحرية الاجتماعية، كما سيضع السلطة التنفيذية والتشريعية بيد المدنيين، ويفتح الطريق لمنظومة عدلية مستقلة ومهنية تستطيع أن تسترد الحقوق.
لكن، على رغم كل الجوانب الإيجابية التي يعدّدها مؤيدو الاتفاق، ثمة نقطة يبدو سياقها ملتبساً، وهي أقرب إلى معنى «عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم». مع ذلك، يجدر التنبه إلى أن المخزون النفسي الذي تراكم عبر ثلاثين عاماً من القهر، واختطاف الوطن بيد الحزب الحاكم، ثم العنف المفرط الذي واجه به النظام الاحتجاجات... كل هذا كان محتماً له أن ينفجر على نحو كارثي في حال سقوط النظام فوراً وبفوضوية. وعليه، وعلى رغم أن الحراك الشعبي لم يستكمل شروط النجاح كلها، فإنه عُصم من السقوط في فخاخ الثورات الزائفة التي شهدناها في ما يُوصف بـ«الربيع العربي». ومن حسنات الاتفاق الأخير أنه وفّر حالة هدوء تسمح بنوع من التعقل، وبأن يتم إنضاج مفاهيم شابها كثير من الالتباس على نار هادئة، ومنها «الشرعية الثورية» الذي اشتبه على البعض في منطقتنا إلى درجة استباحة كل المحرمات، وأطلق أسوأ ما في الإنسان من غرائز الثأر والانتقام. لا شك في أن لتوطين مفاهيم الديموقراطية والحقوق المدنية ودولة المواطنة أثماناً تدفعها المجتمعات. وقد تعرض الشعب السوداني خلال مسار ثورته لأقسى امتحانات الوطنية مع التمسك بالسلمية. لذا، تحمل الحالة السودانية إمكانية تحويل المخاطر إلى فرصة، والمرحلة الانتقالية التي ستؤسَّس على أساس نصوص الاتفاق بين المجلس العسكري و«الحرية والتغيير» بإمكانها أن تقدم للعالم تجربة عملية تثبت أن أهداف الثورة يمكن أن تتحقق.
هل انتهت الثورة هنا؟ بالطبع لا. ثمة عاملان أساسيان يرجّحان معاً فرضية استمرارية الثورة، هما: طبيعة الحراك الشعبي، وطبيعة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير. لعل الضمانة الأولى لاستمرار الثورة وتخطيها تحديات الاتفاق تكمن في طبيعتها الجذرية التي تستعصي على الاحتواء والرضى بنصف النصر. فمن الواضح أنها تتجاوز مشكلة الحكم إلى مخاطبة مشكلات الدولة في جذورها، وعبر كل تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والأهم من ذلك أنها «ثورة وعي» في المقام الأول، و«ثورة ضمير» تطاول المنظومة القيمية بالقدر نفسه الذي تستهدف فيه البنيان القديم لأجهزة الدولة. أما العامل الثاني، فهو طبيعة القوى التي خاضت غمار الثورة منذ انطلاقتها، وفي مقدمها الشباب والمرأة. تلك القوى كانت ولا تزال تعبّر عن أحلام تتجاوز كل معطيات الواقع الموضوعي وقواه المؤثرة، وتتصادم بالضرورة مع كل ما انتهى إليه تاريخ الصراع في السودان. وهي وجدت في «تجمع المهنيين» الأداة التنظيمية المناسبة والمعبرة عن تطلعاتها. فامتلك الأخير بهذا التفويض زمام المبادرة، حتى صعد بالحراك إلى مرحلة الاعتصام ثم سقوط البشير، قبل أن يتشكل تنظيم عريض يتجاوز الولاءات الحزبية والقبلية والعرقية، ويضم «لجان المقاومة» التي أدّت الدور الرئيس في قيادة الحراك وتطويره، بالإضافة إلى الحملة الواسعة التي تمضي في اتجاه استرداد النقابات من هيمنة «الإخوان المسلمون»، التي فرضها نظام «الإنقاذ». كذلك، تعاظم الوعي بالحقوق المدنية، بل نشطت منظمات المجتمع المدني بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث. كل هذه الإرهاصات تشير إلى أن خطوط العمل السياسي السوداني قد تختلف نوعياً عن كل التجارب السابقة التي أعقبت سقوط الأنظمة العسكرية، سواء بعد ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1964، أو انتفاضة آذار/ مارس 1985.
هذه القوى الاجتماعية ارتضت ــــ بحكم الظروف الموضوعية ــــ أن تتشارك قيادتها الثورية مع قيادات حزبية تقليدية في إطار تحالف يضم القديم والجديد. وهي تعلم الآن أن طبيعة تكوين هذا التحالف «الاضطراري» هي التي قادت إلى «التسوية». لكن مرحلة ما بعد الاتفاق ستفرز واقعاً جديداً، وسيتغير المشهد السياسي إلى حد كبير، وسيفرض أشكالاً جديدة من التحالفات بشروط مختلفة. فالثورة عملية تراكمية، وهي تستكمل شروط نجاحها بالنضال اليومي وليس بالتنظير النخبوي في قاعات معزولة عن الناس. لذلك، التقييم الموضوعي لما حدث ويحدث هو المدخل الصحيح لاستمرارية الثورة. من هنا، على قوى الثورة أن تدرك أن التآمر الخارجي والانكشاف الداخلي وكل العوامل الأخرى ما كان لها أن تتمكن من وضع العراقيل أمام بلوغ المحطة النهائية، لو لم تتوافر عوامل «ذاتية» داخل جسم الثورة نفسها، أوصلت الحراك إلى محطة الاتفاق والتسوية.
تكمن قدرة الثورة على استكمال شروط نجاحها بمعرفة هذه العوامل وتحديدها ثم معالجتها. فأي تقييم أولي لثورة كانون الأول/ ديسمبر سينحو حتماً إلى أنها ليست كأي ثورة سابقة في السودان. فهي ثورة على كل خيبات الماضي وما انتهت إليه الثورات السابقة، ولا يبدو أن أي اتفاق سيكون قادراً على إخماد نارها.
* كاتب وباحث سوداني