دمشق | الحياة طبيعية في مدينة دمشق. أصوات المدفعية وهدير الطائرات الحربية باتت جزءاً من اليوميات «العادية»... مثلها مثل زحمة السير الخانقة التي التي لا يخفي سائقو سيارات الأجرة تذمّرهم منها، رغم أن بعضهم يراها «لمصلحة أمننا». الرحلة التي كانت تستغرق 10 دقائق كحد أقصى في العاصمة السورية ومحيطها، باتت بحاجة إلى أكثر من نصف ساعة بسبب التفتيش والاجراءات الأمنية المشدّدة. هنا لا يغيب الحديث عن الاوضاع الامنية والسياسية عن أي نقاش دائر. في المقاهي، في سيارة الاجرة، في المطاعم... اليوم حديث المصالحات والتسويات هو الطاغي... فضلاً عن الهواجس الأخرى التي تفرض نفسها في بلد الحرب.

من المعضمية إلى برزة والقابون ويلدا وبيت سحم ومخيم اليرموك وأخيراً ببيلا في ريف دمشق، تخلى مئات المسلّحين عن «الثورة». رُفع العلم السوري على مقار البلديات والمباني الحكومية، وفُك الحصار عن البلدات. صوّرت الكاميرات جنوداً من الجيش يصافحون من كانوا حتى الأمس «إرهابيين» بنظر السلطة ومؤيديها. كل منهم يحمل سلاحه، لكن أيديهم لم تعد على الزناد.
نأت هذه البلدات بنفسها عن الحرب، بعدما كانت تشكّل حاضنة خصبة للمعارضة والمسلحين.
الشارع السوري منقسم بين رافض للمصالحات ومؤيّد لها. من خسر شهيداً أو أكثر في عائلته عبّر عن امتعاضه، فيما رأى البعض الآخر أنه «آن الاوان لوقف حمام الدم» و«الوطن أكبر من كل شيء، رغم الغصّة».
نادر سبق أن قاتل في صفوف «قوات الدفاع الوطني». تطوّع العام الماضي وشارك في عمليات عسكرية عدة، لكن إصابته حتّمت عليه ترك القتال. خاض أعنف المعارك وعرف عدوّه أكثر من أي مواطن آخر، لا يتقبّل على الاطلاق تلك المصالحات، «فما الذي يضمن ألا يطعننا هؤلاء من جديد، خصوصاً أن الاسلحة الخفيفة لا تزال معهم؟»، يسأل. ويضيف: «نحن دافعنا عن أرضنا في وجه هؤلاء الارهابيين، اليوم أصبحوا مواطنين عاديين؟». صديقه عماد، هو أيضاً من أوائل المتطوّعين للقتال ضد المعارضة المسلحة، مستاء كذلك. «هذا غير مقبول... أشعر أن دم أصدقائي وأقربائي راح على الفاضي»، يقول.
ويلفت عماد الى أنّ بعض المناطق التي جرت فيها المصالحات أرسلت العائلات فيها المواد الغذائية الى المسلّحين: «هذا ما حصل في المعضمية، أرسلت مواد غذائية الى المسلحين في داريا». هنا يحتدّ أكثر، «ماذا عن هؤلاء المرابطين في الميدان حالياً وعلى مختلف الجبهات؟ أتفهّم شعورهم!». شخص آخر يصرّ على أن «النظام تعب في هذه الحرب، ومن مصلحته هذه المصالحات، أما المسلحون والأهالي فالجوع أجبرهم على ذلك... مسخرة». ويضيف: «هؤلاء المسلحون كانوا ينسّقون مع مسلحين آخرين في مناطق أخرى لم يدخل النظام اليها بعد... وهم يخططون لأعمال إرهابية. كيف أريد أن أتفهّم المصالحات؟ هذه حرب، يجب محاسبتهم».
تروي ياسمين عن استشهاد خالها في الجيش السوري، وهو أب لطفلين. زوجة خالها فقدت بعد أربعين يوماً من استشهاد زوجها شقيقها أيضاً. «من سيعتني بها وبأطفالها؟ كيف ستتحمّل العيش في المكان نفسه الذي يقطن فيه قاتل زوجها وأخيها»، تردّد بعصبية. «أشعر أنني مغبونة»، تضيف.
هذه القصة ليست الوحيدة. فالشهداء بالآلاف، وأينما تذهب يخبرك أحدهم باستشهاد أحد أقربائه في الحرب. لا شكّ في أنهم يفتخرون بالشهادة من أجل الدفاع عن سوريا. رغم غضبها تستشهد ياسمين بقول لأنطون سعادة: «يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لأضمد جراح أمتي البالغة».
في المقابل، الناس تعبوا هنا، والجميع يريد أن يتوقّف النزيف الكبير الذي أصاب سوريا. «لا نريد القتال، نريد السلام فقط بأي طريقة»، يقول أحد السائقين، مشدّداً على «ضرورة أن ينتبه الجيش السوري لكل المسلحين، شو الضمانة ما يرجعوا ينقلبوا علينا؟!». أحد أصحاب المقاهي المشهورة في العاصمة السورية يعترف بأنّه «ضمنياً لست مع المصالحات، بس البلد بدو يمشي». أحد زملائه يعلّق: «ما بإيدنا نعمل شي، شو بدنا نحكي لنحكي، خلّينا نخلص ونرتاح».
خسر نائل ولدين له في هذه الحرب. رغم جرحه يقول «الوطن أغلى من كل شيء... المهم الحفاظ على سوريا حتى لو أنني لا أؤيّد تلك المصالحات».
على المستوى الرسمي، «قطار التسويات لن يتوقف، بل هو خيار استراتيجي، بمعزل عما يجري على مستوى المفاوضات السياسية»، يقول مسؤول رسمي سوري لـ«الأخبار»، مضيفاً: «المصالحات التي عُقِدت تمت بضمانة من الرئيس (بشار) الأسد. ولذلك لم يتم التعرض لأي مسلّح توقف عن قتال الدولة. والرئيس ماضٍ في هذا الخيار، لأنه يجنّب القرى والبلدات والمدن المزيد من الدمار والدماء».

يمكنكم متابعة رشا أبي حيدر عبر تويتر | @RachaAbiHaidar