ما من سنة ولا شيعة في أوكرانيا، بل أغلبية سلافية أرثوذكسية وأقلية كاثوليكية، فيما سجّل ما يقرب من ثلثي الأوكرانيين أنهم بلا دين؛ ومع ذلك، فالبلد مهدد بالانقسام والحرب الأهلية بسبب وجود كتلة جماهيرية يمينية مهيّجة المشاعر ضد الارتباط السياسي والاقتصادي والدفاعي بروسيا؛ فبالنسبة إلى هذه الكتلة المتصلّبة، تُعَدّ التبعية لأوروبا والولايات المتحدة، «استقلالا»، برغم الفاتورة الباهظة المطلوبة، غربيا، من الأوكرانيين: تراجع وتفكك الصناعة والزراعة تحت ضغط المنافسة الخارجية، وتفاقم نسبة البطالة، والتضخّم الذي يهدد عشرات الملايين بتآكل دخولهم، وتحوّلهم إلى فقراء وجوعى، وإلى ذلك، تفكيك الجيش الأوكراني ــــ وهو ثاني أكبر جيش في أوروبا بعد الجيش الروسي ــــ واستتباعه بحلف شمالي الأطلسي.
كان خيار التبعية للغرب، الذي ألحق الانحطاط بأوكرانيا، خيارا وحيدا، بالنسبة إليها، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والانكماش الروسي، لكن نهضة روسيا المتجددة، فتحت أمام كييف، خيارا آخر: العودة إلى التعاون الأخوي بين البلدين من تطوير القطاعات المنتجة والتجارة والتزوّد بالغاز بأسعار تفضيلية، والحصول على قروض سهلة من دون الاضطرار إلى تجرّع «اصلاحات» صندوق النقد الدولي وشروط الاتحاد الأوروبي المجحفة، لكن اتضح أن عبودية الغرب الرأسمالي النيوليبرالي تشدّ عصب كتلة جماهيرية مصممة على المضي نحو اليمين: تفكيك الدولة وتخريب القطاعات الانتاجية وإفقار وتهميش الفئات الشعبية، لمصلحة قطاع البزنس المرتبط بالمصارف والعقارات وخدمات الاتصالات الخ.
في المنطق السليم، يُفاجَأ المراقب كيف تتظاهر كتلة جماهيرية ضد مصالحها، وتدعم اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي سيرهقها بالبطالة وارتفاع كلفة المعيشة، ويضاعف الفساد والاستبداد؛ لكن ذلك ما يحدث فعلا، ولا تفسير له سوى تمكّن القيم الليبرالية الفردية المعادية للدولة والمجتمع والإنسان، من التغلغل في فئات اجتماعية واسعة نسبيا، تتلاقى حول محركات يمينية من شبكات رجال الأعمال والشركات ووسائل الإعلام الموظّفة في خطط نفسية وثقافية استخبارية والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الإجرامية والشباب ذوي الميول العدمية. وهكذا، تلتف المؤثرات المختلفة في حركة جماهيرية مموّلة تعمل، واعية أو غير واعية، في خدمة الإمبريالية الأميركية الأوروبية الغربية.
لا يعني ذلك أنه ما من عناصر أصيلين للاحتجاج على السلطات في أوكرانيا، بل أولئك العناصر سرعان ما يذوبون في الحركة الموجّهة لأهداف جيوسياسية؛ فالغرب مصمم على محاصرة النهوض الروسيّ، والضغط على مسعى موسكو لاستعادة دورها العالمي. وهو ما يثير الغضب لدى أكثر أوساط الدولة الروسية اعتدالا، ويدفعها لاستخدام لغة حربية؛ فرئيس الوزراء الروسي الحمائمي، ديمتري مدفيديف، لا الصقر فلاديمير بوتين، هو الذي يطالب حلفاءه في كييف، بأن يكونوا أشداء في الدفاع عن الناس، وعن قوات الامن التي تحفظ مصالح الدولة.
يقوم الغرب بمسعى انقلابي في أوكرانيا، وقد بدأت استخباراته بتحريك بلطجية العنف والمقاتلين من بين صفوف كتلة اليمين الجماهيري. وهذه الكتلة نفسها، بالمواصفات نفسها، هي التي يجري تحريكها، الآن، للقيام بانقلاب ضد سلطة الشعب في فنزويلا.
في فنزويلا، تتضح، أكثر، سمات كتلة اليمين الجماهيري؛ فالسلطة الفنزويلية، ليست متجهة فحسب نحو استقلال اقتصادي عن الغرب، لكنها أيضاً تنفّذ، منذ سنوات، برنامجا ديموقراطيا اجتماعيا فريدا في عمقه، واتساعه، لمصلحة الفئات الشعبية، وخصوصا الأكثر فقرا وتهميشا بينها، وتحقق انجازات تقدمية؛ لكن، كما نرى في واقع يعوزه المنطق السليم، فإن كتلة جماهيرية تضع نفسها في تصرّف الشركات الأجنبية ووكلائها المحليين في مواجهة حكومة مستقلة وشعبية.
عربيا، تتعزز كتلة اليمين الجماهيري بالعصبية الطائفية، مما يجعلها أكثر صلابة وأقل عقلانية، حتى إنها تمنح، عندما يقتضي الأمر، لحثالات التاريخ من العصابات الاجرامية التكفيرية، الغطاء السياسي للإرهاب، وتسوّغ ليس فقط التبعية للإمبريالية، تحت شعار «الاستقلال»، بل وتسوّغ التواطؤ مع العدو القومي، إسرائيل، وتدمير الدولة الوطنية تحت شعار «الحرية»، بينما يشتغل الإعلام الموجه و«المثقفون» المُمَوَّلون لنشر الالتباسات، وتصوير تحرّك وتحريك اليمين الجماهيري، على أنه «ثورة».
مشهد رأيناه عام 2005، في ما سُمي «ثورة الأرز» في لبنان، التي جيّشت اليمين الجماهيري في ضربة أميركية إسرائيلية رجعية لسوريا. كان الوجود السوري في لبنان، بالطبع، ضاغطا وكانت هناك أخطاء وخطايا؛ لكن ثورة الأرز كانت عنوان وبداية حراك اليمين الجماهيري على المستوى العربي؛ شبيهها في سوريا «إعلان دمشق» المتحوِّل، لاحقا، حراكا ليبراليا في سوريا، وظيفته منح الشارة للحراك الرجعي الطائفي الإرهابي. وكانت توجد، بالطبع، مسوغات اجتماعية وإنسانية للاحتجاج على النظام السوري، لكن كتلة الاحتجاج تدحرجت من الليبراليين إلى الرجعيين إلى الإرهابيين في صيرورة موضوعية اتجهت نحو الارتهان للإمبريالية والصهيونية، وتمثيلهما في الحرب على سوريا الدولة والوطن.
في المقابل، تمثل كتلة اليمين الجماهيري، في شروط الثورات الحقيقية، العامل الأساسي لتخريبها وتحطيمها، كما حدث في مصر المنكوبة بكتلتين جماهيريتين يمينيتين، مباركية وإخوانية.