استعادت قوات حكومة الوفاق السيطرة على مدينة غريان الجبلية جنوبي طرابلس نهاية الشهر الماضي، بعد تمركز قوات المشير خليفة حفتر فيها لمدة تقارب ثلاثة أشهر، تحولت خلالها إلى مركز قيادة للهجوم على العاصمة. مباشرة، بعد انسحاب الجزء الأكبر من مقاتليها، بدأت قوات حفتر حملة قصف جوي في المدينة، استهدفت خاصة «معسكر الثامنة» ومستودعاته، في محاولة لتدمير ذخائر وأسلحة لا يراد لها أن تظهر للعلن. مع ذلك، سقطت في أيدي قوات «الوفاق» عدة نماذج من الأسلحة التي استخدمتها قوات حفتر، أهمها غرفة عمليات متنقلة موضوعة في حافلة، وثلاث طائرات قتالية مسيّرة صينية الصنع تملكها الإمارات، وأربعة صواريخ «جافلين» مضادة للمدرعات، أميركية الصنع. وعلى الرغم من أهمية كل هذه الأسلحة، إلا أن التركيز انصبّ على الصواريخ تحديداً، وذلك لمنشئها الأميركي، حيث يفترض أن الولايات المتحدة تضع شروطاً مشددة على استخدام الأسلحة التي تبيعها، وتحظر إعادة بيعها لطرف ثالث.في البداية، وُجّهت أصابع الاتهام في تقديم تلك الصواريخ إلى قوات حفتر، نحو الإمارات، على اعتبار أنها اشترت شحنة منها قبل ما يقارب عقداً من الزمن. لكن التحقيق الذي أجرته وزارة الخارجية الأميركية، وكشفت تفاصيله أخيراً صحيفة «نيويورك تايمز»، يبيّن أن الصواريخ المكتشفة في غريان كانت قد بيعت إلى فرنسا عام 2010، ضمن صفقة تشمل 260 وحدة. وتحدثت الصحيفة الأميركية مع أحد مستشاري وزير الدفاع الفرنسي، الذي اعترف بوجود الصواريخ في غريان، إلا أنه قال إنها لم تعد صالحة للاستعمال، وقد كانت مخزنة في مستودع بانتظار التخلص منها. أما حول أسباب وجودها في ليبيا، فبرر ذلك بحماية قوات فرنسية تضطلع بمهمات «استخبارية ومكافحة الإرهاب»، كما نفى تسليمها لطرف ليبيّ ليستخدمها في الحرب. لكن حديث المستشار الفرنسي، وإن كان تبريرياً ونافياً في آن واحد لتورط فرنسا في تسليح قوات حفتر، يكذّب ما قالته سفارة فرنسا في ليبيا، في الأول من تموز/ يوليو الماضي، أي بعد أيام قليلة من سقوط غريان، حين نشرت السفارة على صفحتها في «تويتر» تغريدة جاء فيها: «تنفي سفارة فرنسا نفياً قاطعاً ما يُتداوَل في بعض مواقع التواصل الاجتماعي بشأن وجود عسكريين أو أطقم عسكرية فرنسية في غريان».
تبين أن الصواريخ المكتشفة في غريان كانت قد بيعت لفرنسا عام 2010


في حقيقة الأمر، لم يكن الحديث عن وجود قوات فرنسية في غريان مجرد شائعات تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، كما أرادت أن تروّج سفارة فرنسا، بل هي معلومات تداولتها أكثر من جهة، من بينها آمر اللواء الأول مشاة، مصطفى المشاي، الذي قال في مداخلة عبر تلفزيون ليبي محلي يوم 28 حزيران/ يونيو، أي أثناء تواصل العمليات حول مدينة غريان، إن قواته «رصدت سيارات تحمل عسكريين فرنسيين، كانوا في غرفة عمليات حفتر بغريان». كذلك نشرت قوات «الوفاق» في اليوم نفسه اعترافات أسير يتبع قوات حفتر (يحمل رتبة مقدم، ويعمل في «معسكر الثامنة»)، يورد فيها معلومات تكمّل ما قاله المشاي، إذ أكد وجود ضباط إماراتيين وفرنسيين في غرفة عمليات غريان، يقدمون المشورة في تشغيل الطائرات المسيّرة والتجهيزات الإلكترونية التي تفتقد قوات حفتر للخبرة في استعمالها. وأكد وجود ضباط مصريين، لكن في غرفة العمليات الرئيسة شرق البلاد.
رسمياً، تلتزم فرنسا حتى الآن الصمت إزاء انكشاف كذبها، ويبدو أنها لن تقرّ بدعمها حفتر إلا في حال فقدانها جنوداً كما حصل سابقاً أثناء فترة حكم فرانسوا هولاند، حين نفت باريس تقديم دعم من هذا النوع، لكنها اضطرت إلى الاعتراف جزئياً بذلك عندما أسقط مقاتلون طائرة حوامة تحمل ثلاثة جنود فرنسيين من القوات الخاصة كانوا في «مهمة خاصة... في مجال مكافحة الإرهاب»، وفق تصريحات الناطق باسم وزارة الدفاع الفرنسية آنذاك.
من جهتها، لم تصدر وزارة الداخلية في «الوفاق» موقفاً من نتائج التحقيق الأميركي، رغم علمها بوجود قوات فرنسية في غريان منذ استعادتها المدينة. غياب ربما يشير إلى أن «الوفاق» استعادت علاقتها مع فرنسا، وهذا ما تفيد به أيضاً مراسلة داخلية مرسلة من وزير الدفاع إلى مدير إدارة العلاقات والتعاون في الوزارة، بتاريخ 18 حزيران/ يونيو، تتحدث عن «استئناف التعامل مع الجانب الفرنسي في المجالات المشار إليها (التدريب والتنسيق)»، وذلك بعد شهر من اتخاذ قرار وقف التعامل الأمني مع فرنسا.