الهجوم المفاجئ الذي شنّته المجموعات المشكّلة من بقايا «الجهاد العالمي»، بحسب التعبير المستخدم أساساً من قِبَل أجهزة الغرب الأمنية ووسائل إعلامه، كـ«حراس الدين» و«الحزب الإسلامي التركستاني»، في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، بمشاركة غير معلنة من «هيئة تحرير الشام»، يثير العديد من الأسئلة عن غاياته الفعلية.سعت «هيئة تحرير الشام»، خلال السنة الماضية، إلى التمايز الكامل عن المجموعات «الجهادية» ومحاولة احتوائها وتحجيمها، في إطار سياسة إعادة تكيّف طويلة الأمد، هدفت إلى إظهار صدقية قطيعتها مع «القاعدة» وما تمثل، لتركيا والقوى الغربية، والتحول إلى طرف سياسي مقبول بفضل ذلك. الاستعانة بـ«الجهاديين الدوليين» مجدداً كرأس حربة في المواجهات العسكرية يتناقض مع المسعى المذكور، إلا إذا كان المقصود استخدامهم والتخلّص منهم في الآن نفسه. غالباً ما تفرض الوقائع العنيدة وموازين القوى عمليات إعادة تكيّف سياسية وحتى عقائدية ــــ فكرية على أحزاب ومنظمات بدت في المراحل الأولى من حياتها أنها في قمة التشدد والحزم. من كان يتخيل أن يتحول حزب «العمال الكردستاني»، التنظيم الماركسي ـــ اللينيني المعادي للإمبريالية، إلى العمود الفقري للحليف الرئيس للولايات المتحدة على الأرض السورية، «قوات سوريا الديموقراطية»؟ ضرورات البقاء، وضغوط الواقع الميداني والسياسي، كثيراً ما حملت مجموعات وأفراداً على تقديم التنازلات تلو التنازلات، والاندراج في أجندات أطراف دولية وإقليمية صُنّفت في زمن مضى على أنها «العدو المركزي». قد يكون الاضطلاع بوظيفة شبيهة بتلك التي تؤديها «قسد» في إطار الخطة الأميركية في سوريا حالياً، طُموحاً بعيد المنال بالنسبة إلى وريثة «جبهة النصرة»، غير أن هذه الحقيقة لم تمنعها من اعتماد سياسات واتخاذ جملة من الإجراءات، أملاً في أن تصبح مؤهلة لدور كهذا في المستقبل. ويغذّي هذا الأملَ التقاطعُ الموضوعي في المصالح راهناً، بين الولايات المتحدة من جهة، و«تحرير الشام» وحلفائها من جهة أخرى، حول هدف منع استعادة الجيش السوري لسيطرته على المناطق التي خرجت عنها.
مصادر مطّلعة، على صلة بالمعنيين بالملف السوري في الإدارة الأميركية، قالت لـ«الأخبار» إن عدم التوافق داخل هذه الأخيرة على ما سينجم بالفعل عن سياسة العقوبات القصوى تجاه إيران وسوريا لا يمنع الإجماع بين أعضائها على فكرة أنها، أي العقوبات، عبر حرمانها النظامين قسماً كبيراً من مواردهما المالية، ستضعفهما وتحدّ من قدرتهما على الاستمرار في الحروب والمواجهات. وبحسب المصادر، إن «المطلوب في حالة سوريا تغيير السلوك والسياسة، لا النظام. لتحقيق ذلك، لا بد من وقف تقدم الجيش باتجاه المناطق التي تزخر بالموارد المائية والزراعية وموارد الطاقة، وفرض وقف لإطلاق النار يسمح بتثبيت سيطرة فصائل المعارضة عليها. تستطيع الولايات المتحدة بعد ذلك، بالتفاهم مع روسيا أو من دونه، استهداف عناصر الجهاد العالمي ومجموعاته بضربات موضعية للإجهاز عليهم. ما زالت أوساط في الإدارة الأميركية والبنتاغون والأجهزة الأمنية حريصة على استكمال ما تعتبره مهمة القضاء على الإرهاب السلفي ـــ الجهادي المعولم، حتى في ظل المعركة مع إيران».
تعمل الهيئة على إضعاف المجموعات «الجهادية» واحتوائها


لقد بادرت «تحرير الشام» إلى القيام بسلسلة من الخطوات لتتمكن من الاستفادة من التوجهات الأميركية الحالية تجاه الملف السوري. وبما أن أولويتها هي «الصمود» في منطقة إدلب، فقد لزّمت إدارة الشؤون المدنية لـ «حكومة إنقاذ»، وأنشأت غرفة عمليات عسكرية مع فصائل مصنفة «معتدلة» و/ أو مرتبطة بتركيا مثل «فيلق الشام» و«جيش العزة»، وحصرت مهماتها بالجوانب العسكرية والأمنية. لكن الإجراءات الأهم، التي تشي بجهودها للقطيعة مع ماضيها والتمايز عن «الجهاديين» المعولمين، هو كيفية تعاملها مع هؤلاء. تلفت المصادر إلى أن «الهيئة بدأت منذ أكثر من سنة بتحجيم مجموعات الجهاد العالمي ومحاصرتها. في تلك الفترة، اغتيل 12 قيادياً من هذه المجموعات بينهم سعوديون وتونسيون ومصريون ومغاربة وسوريون، ولم تتضح هوية الجهة التي فعلت ذلك. لكن التطورات التي تلت أوضحت أن الهيئة تعمل على إضعاف هذه المجموعات واحتوائها والحدّ من قدرتها على القيام بالمبادرات، ومن المحتمل أن تكون الجهة المسؤولة عن الاغتيالات. وهي تقوم اليوم في المناطق الخاضعة لسيطرتها بمنع تجار السلاح من بيع أسلحة نوعية، وأحياناً الذخائر، لمجموعة حراس الدين مثلاً، لإضعافها ومنعها من الإقدام على عمليات أو هجمات لا تريدها الهيئة. طبعاً، لم تعد للهيئة صلات مع قوى أو خلايا قد تقوم بعمليات خارج الأراضي السورية. هي قد لا تستطيع أن تقدم نفسها على أنها باتت شريكاً في الحرب على الإرهاب، غير أنها تُسهم في مواجهة داعش وضربه هو والخلايا المرتبطة به في مناطقها». نقطة أخرى مهمة تعكس هذا التوجه لتطبيع أوضاعها والقطيعة مع ماضيها، هي جهودها لتعزيز علاقاتها مع تركيا التي قدّمت لغرفة العمليات التي تشارك فيها كميات كبيرة من السلاح في الآونة الأخيرة. ما تصبو إليه «الهيئة»، وفقاً للمصادر، أن تتحول إلى تنظيم شبيه بـ«أحرار الشام»، الذي صنّفته القوى الغربية سلفياً محلياً لا ضير في التعامل معه.