القاهرة | تحاول الدولة المصرية تمويه تخلّيها عن التزاماتها الأساسية تجاه مواطنيها، بتحريض الطبقات الاجتماعية بعضها على بعض، وذلك في مسعىً منها لتمرير إجراءات زيادة الأسعار، على رغم الاعتراضات الشعبية. تريد الدولة إكمال برنامج «الإصلاح الاقتصادي» الذي تطبّقه منذ ثلاثة أعوام وفق اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، الذي من ضمنه الحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار.هذه المرة، تدرك الدولة أن الزيادة الكبرى ستطاول الفئات الأكثر فقراً، كما حدث في زيادة أسعار الكهرباء؛ إذ كان أصحاب الاستهلاك الأقلّ هم الأكثر تضرراً، على عكس ذوي الاستهلاك الأعلى. لذلك، لم يجد النظام سوى تأليب الطبقات لتمرير الإجراءات الجديدة، في الوقت الذي سيتحمل فيه محدودو الدخل النسبة الكبرى من الارتفاع الذي سيطاول أسعار السولار (المازوت) وبنزين 80 الأكثر استعمالاً في مركبات النقل، وهو ما ظهر واضحاً في الحملات الإعلانية والدعائية المكثفة لتبرير تلك الزيادة تحت كلمة «تحريك»، لا «ارتفاع».
عبر الإعلام ووسائل أخرى، تخاطب الحكومة الفقراء بأنّ رفع أسعار المحروقات يعود إلى استفادة أصحاب السيارات من الدعم دون غيرهم، في وقت يفترض أن يحصل فيه الفقراء على هذا الدعم لبناء مدارس وزيادة المعاشات (التي دخلت حيّز التطبيق)، وأيضاً توفير العلاج في المستشفيات الحكومية، فضلاً عن معاشات «تكافل وكرامة» للأسر الفقيرة التي لا يوجد عائل لها، ولديها أطفال في مراحل التعليم المختلفة! وفق هذه الرواية، تتعامل الحكومة مع أصحاب السيارات بصفتهم أثرياء يجب رفع الدعم كاملاً عنهم. وحتى لو كان عمر السيارة خمس سنوات، أو الهدف من شرائها العمل عليها، فإن العائلة ستخرج من مظلة الدعم التي توفرها الدولة للطبقات المتوسطة والأقل من المتوسطة.
في مراحل سابقة، عملت الدولة على تشجيع الفقراء على تقبّل الزيادات، خاصة في سعر صرف الدولار، قائلة إن ذلك سيمسّ حصراً «السلع الاستفزازية» التي تُستورد بملايين الدولارات شهرياً، كالجمبري والكاجو ومأكولات الكلاب والقطط، وأنه لن يتضرر من تحرير سعر صرف الجنيه سوى مستهلكي تلك السلع، ومن لديهم القدرة على السفر إلى أوروبا، وهم طبقة غنية يجب أن يتحملوا من أجل مصر. لكن الواقع أنّ جميع الطبقات تضررت، وهو ما انعكس في ارتفاع مؤشرات التضخم بصورة غير مسبوقة، وقفز مختلف الأسعار تدريجاً بنفس نسبة انخفاض العملة، وذلك لأن البلد يعتمد على الاستيراد بصورة رئيسة.
تريد الحكومة تمرير زيادات الأسعار بإشغال الطبقات الاجتماعية بنفسها


في المقابل، تسوّق الدولة تبريرات معاكسة للأغنياء، فتقول لهم إنهم الأحق في الحصول على الخدمات، كالمستشفيات والطرق، وكذلك الشعور بـ«تحسن في البيئة المحيطة بهم»، وهو ما لن يتحقق دون إجبار الفقراء على تحمل التزاماتهم المالية، ودفع قيمة ما يحصلون عليه كاملاً دون دعم من الدولة، كي تستغل الأخيرة هذه الأموال للمصلحة العامة، لا للفقراء فقط. أكثر من ذلك، تطمئنهم إلى أن خطتها تستهدف «تحجيم الفقراء وإجبارهم على سداد ما كانوا يحصلون عليه من الأغنياء وأموالهم» عبر رفع الأسعار، الذي سيستطيع الأثرياء تحمّله من أجل مصلحتهم في المستقبل القريب!
هكذا، يتحول دور الدولة من تحقيق التجانس بين مكوّنات شعبها، إلى تحريض الطبقات الاجتماعية المختلفة بعضها على بعض. صورة عززها الترويج للمشروعات الفارهة التي تنفذها، وسرعة نفاد وحدات هذه المشاريع فور طرحها، وهو ما تكرر أكثر من مرة خلال السنوات الماضية دون اعتبار للحقيقة. واليوم، تريد أن تكبّد الفقراء والأغنياء ضرائب باهظة في مختلف التعاملات اليومية، بدايةً من ضريبة القيمة المضافة، وصولاً إلى رسوم دعم صندوق أسر الشهداء والمصابين من الجيش والشرطة من أجل زيادة العائد، لكن مستوى الخدمات لن يتغير، لأن الفارق من تخفيض دعم المحروقات سيذهب لسدّ عجز الديون المتفاقم، علماً أن موازنة العام المالي الجديد ثلثها لسداد فوائد القروض.
وعلى رغم تضارب المعلومات عن توقيت «تحريك أسعار المحروقات»، ثمة تقارير أمنية تحدثت عن تأجيل تغيير الأسعار إلى ما بعد «كأس الأمم الإفريقية»، لأن التوقيت غير مناسب حالياً، في ظل وجود تجمعات جماهيرية كبيرة يمكن أن تتحول إلى احتجاجات، مع أن الحكومة ترى أن الوقت قد حان لتطبيق الأسعار الجديدة التي تأخر موعدها كثيراً خلال العامين الماضيين.