الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع إيرانية في سوريا، بحسب المزاعم الإسرائيلية، هي الأوسع نطاقاً منذ بداية ما سمّاه رئيس الأركان الصهيوني السابق، غادي أيزنكوت، «عمليات ما دون الحرب». وكان أيزنكوت قد اعترف، أياماً بعد تقاعده، بأن إسرائيل مسؤولة عن شنّ «آلاف الهجمات»، التي تضمنت مئات الغارات، وكذلك عمليات على الأرض ضد مراكز أو مخازن أسلحة وصواريخ لإيران ولحزب الله. لم تنجح هذه الاستراتيجية في منع استمرار بناء القدرات العسكرية والصاروخية لمحور المقاومة وتطويرها تحت النار. وقد أسهمت الانتصارات العسكرية للدولة السورية وحلفائها، خلال السنوات الثلاث الماضية، في تسريع وتيرة عملية البناء والتطوير، وفقاً لحديث كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين اعتبرتا أن تلك العملية انتقلت إلى طور جديد يفرض تغييراً في أولوياتهما على مستوى الإقليم. ويأتي التصعيد الأميركي الكبير ضد إيران في الآونة الأخيرة، والقمة الأمنية المشتركة الأميركية ــــ الإسرائيلية ــــ الروسية، بمعزل عن مدى تطابق موقف موسكو مع مواقف واشنطن وتل أبيب، في ترجمة لهذا التغيّر في الأولويات. توسيع نطاق العدوان الصهيوني على الأراضي السورية يندرج بدوره في هذا السياق الإقليمي والدولي المستجد.
«حذر» أميركي وتصعيد إسرائيلي
تزايدت في الأسابيع الماضية المخاوف من صدام مباشر أميركي ــــ إيراني نتيجة لسياسة الحصار الاقتصادي والخنق والحشد العسكري التي تعتمدها الولايات المتحدة ضدّ ايران. اتُّهمت إيران بالوقوف وراء سلسلة ضربات لناقلات نفط ولأهداف في المملكة العربية السعودية، وبلغ التوتر أوجه مع إسقاط الحرس الثوري طائرة تجسس أميركية اخترقت الأجواء الإيرانية. أعلن دونالد ترامب أنه ألغى في اللحظات الأخيرة قصفاً لثلاثة مواقع على الأراضي الإيرانية، بسبب «حرصه على الحياة الإنسانية»، ولعدم رغبته في الانحراف إلى حرب إذا كان بالإمكان تجنبها.
ولا شك في أنّ الحزم الإيراني، وما يؤشر عليه من استعداد للدفاع عن النفس مهما كانت المخاطر، قد دفعا الرئيس الأميركي إلى التروي ومراجعة حساباته، والإنصات إلى وجهات النظر المشككة في سهولة إخضاع إيران لشروطه المذلّة عبر مزيج من الضغوط القصوى واستعراض القوة العسكرية. لكن اعتباراً آخر حكم هذه الحسابات. لائحة المطالب الأميركية المُوجّهة إلى طهران طويلة، وتتناول قضايا كثيرة، من فرض رقابة دولية على البرنامج النووي الإيراني لمدة تتجاوز عام 2025، مروراً بالترسانة الباليستية الإيرانية، وصولاً إلى الدور الإقليمي «المزعزع للاستقرار» الذي تضطلع به طهران. جميع هذه القضايا بالغة الأهمية في نظر القيادة السياسية والعسكرية الأميركية. إلا أن الأولوية الأولى لـ«حزب الحرب» داخل هذه القيادة، المؤيد لإسرائيل أيديولوجياً وعقائدياً، والذي هندس سقف المواجهة مع إيران وأدار رفعه، وقف التحول الجاري في موازين القوى لغير مصلحة الكيان الصهيوني، والناجم أساساً عن تطوير الترسانة الصاروخية لأطراف محور المقاومة. وبما أنّ هذا التطوير جارٍ في سوريا، من وجهة نظر واشنطن وتل أبيب، فقد أضحت سوريا الساحة الرئيسية للمعركة الدائرة في الإقليم. لم تردّ أميركا على إسقاط طائرتها في الخليج، غير أنّ اسرائيل بادرت إلى توظيف سياق الحصار على إيران، والحشد العسكري في جوارها، لاستهداف وجودها في سوريا على نطاق أوسع من السابق.
تختبر إسرائيل محور المقاومة واستعداده للردّ في مثل هذه الظروف


مسعى لاستغلال اللقاء الثلاثي
يشي توقيت العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية، بعد اللقاء الثلاثي الأميركي ـــ الإسرائيلي ــــ الروسي في القدس المحتلة، بسعيٍ محموم من قِبَل بنيامين نتنياهو لتوظيف ذلك اللقاء، باعتباره «تفويضاً دولياً» إليه للمضيّ في سياسته الهجومية حيال وجود إيران وحلفائها في هذا البلد. لم يَحُل حرص رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي بيتروشيف، على تأكيد تمايز الموقف الروسي عن الموقفين الأميركي والإسرائيلي، قبل اللقاء الثلاثي وبعده، وإصراره على ضرورة أخذ مصالح إيران ودورها بالاعتبار، ووصفه الغارات الإسرائيلية على سوريا بـ«غير المرغوبة»، دون محاولة تظهير اللقاء على أنه يعكس موافقة روسية ضمنية على الضربات الإسرائيلية. منذ أن أدركت القيادة السياسية ـــ العسكرية عجز عمليات «ما دون الحرب» عن وقف مراكمة قدرات محور المقاومة، لم يتوقف نتنياهو عن «الحجّ» إلى موسكو لطلب تدخلها لتحقيق هذه الغاية. من الممكن القول إنه نجح حتى الآن في الحصول على غضّ نظر روسي عن استمرار الغارات الإسرائيلية. هذا أقصى ما يمكنه الحصول عليه في ظلّ غياب صفقة شاملة تعرضها واشنطن، لا تل أبيب، على موسكو، تقدّم فيها للأخيرة عروضاً سخية، كرفع العقوبات عنها، أو الكفّ عن نشر منظومات البطاريات المضادة للصواريخ في جوارها مثلاً، لتحفيزها على الابتعاد عن طهران. في غياب مثل هذه الصفقة، من المستبعد أن ينال نتنياهو ما يتجاوز التعامي الروسي عن اعتداءاته.
السؤال الأبرز الآن يتعلق بكيفية تعامل محور المقاومة مع إمكانية أن يكون العدوان الأخير تدشيناً لمرحلة جديدة تستغل فيها إسرائيل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة لزيادة مدى هجماتها وحدّتها. هي تختبر المحور واستعداده للردّ في هذه الظروف، وستنتقل دون أدنى شك إلى درجة أعلى من العدوانية، في إطار معركة تراها مصيرية بالنسبة إلى مستقبلها كقوة في الإقليم، إن لم تدرك أنّ مخاطر هائلة ستترتب عن مثل هذا الخيار.