الحسكة | لم تواجه «روما البورسان»، المعروفة بأم علي، صعوبةً في اختيار مدينة الحسكة، كمسكن بديل من بيتها في حي الحويقة في مدينة دير الزور، الذي دمّرته الحرب منذ أكثر من ستة أعوام. تقول السيّدة لـ«الأخبار» إن «تشابه الطبيعة الاجتماعية بين المدينتين، ووجود أقارب ومعارف كثر في الحسكة، جعلا منها خياراً رئيساً بعد دير الزور»، ولكنها لا تخفي حنينها إلى منزلها ومدينتها.عائلة أم علي واحدة من آلاف العائلات التي وفدت إلى الحسكة هرباً من الحرب، وبطش الجماعات المسلحة التي فتكت بسكان المحافظات الشرقية، فاختار أغلبهم اللجوء إلى الحسكة التي بقيت، على رغم الحرب، أكثر محافظات الشرق أماناً. ومع انقضاء أعوام الحرب الثمانية، بدأ النزوح يأخذ شكل الاستقرار، بعدما باتت للوافدين أرزاقهم وأعمالهم وتأثيراتهم الاقتصادية والاجتماعية على مجتمع المحافظة، وأيضاً بعدما طحنت الحرب غالبية ممتلكاتهم في مواطنهم الأصلية. ولم يجد قاطنو الحسكة الجدد صعوبة في الاندماج بمجتمعها، لتشابه النمط الاجتماعي والعادات والتقاليد، ووجود صلات قربى واسعة، إلى جانب كون طبيعة المحافظة قائمة أصلاً على التنوع الاجتماعي والديني والقومي.

نشاط الوافدين الاقتصادي
لم يعد خافياً على أحد من سكان محافظة الحسكة حجم الاستثمارات التجارية التي أحدثها الوافدون إلى المحافظة، ما أسهم في تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية فيها، وسدّ فراغ هجرة الآلاف من أبناء المدينة باتجاه شمال العراق وتركيا وأوروبا، الأمر الذي سدّ هوة النقص في اليد العاملة على الأقل. كما أدخل الوافدون قطاع الصناعة إلى المحافظة، من خلال افتتاح عدد من المصانع والمعامل الصناعية، بعد أن اقتصر النشاط الاقتصادي فيها على قطاع الزراعة. بعد مرور أكثر من خمسة أعوام على تأسيس مخيمات الهول والعريشة وعين عيسى والمالكية وعين الخضرا ومبروكة وأبو خشب، وبفترات زمنية متقاربة، تحوّلت هذه المخيمات إلى مدن أو بلدات صغيرة، اعتاد قاطنوها نمط العيش فيها، مع نشاط تجاري واقتصادي ملحوظ.
لم يعد خافياً على سكان الحسكة حجم الاستثمارات التجارية التي أحدثها الوافدون


في مخيّم العريشة (25 كلم جنوب الحسكة)، يستيقظ أبو محمّد (اسم مستعار) منذ الصباح الباكر ليقلي البيض ويعدّ مكونات الفلافل والبطاطا، في مطعمه الصغير داخل المخيم، والذي تحوّل إلى مصدر دخل لأسرته، إلى جانب عشرات المحال التجارية التي تبيع الخضر والفواكه والألبسة. اختار الشاب محمّد، الفار من قرية القورية في ريف دير الزور الشرقي، العمل كعتّال مع إحدى المنظمات الخيرية، لتأمين قوت أسرته اليومي. لا يخفي الشاب رغبته في العودة إلى قريته، لكنه يبدي تخوفاً من ملاحقة أمنية قد تطاله. يقول لـ«الأخبار»: «لا أحد يفضّل المخيم على منزله، لكننا نسمع بأن حساباً كبيراً ينتظرنا في القورية، لاتهامنا بموالاة الجيش الحر وداعش». وفي هذا السياق، نشرت صفحة محافظة دير الزور الرسمية على «فايسبوك» تأكيداً أن «باب التسوية والمسامحة مفتوح، وأن كل من لم تتلطخ يديه بالدماء مُرحّب به في بيته ومنزله». وأوضحت الصفحة أن «أكثر من مليون و200 ألف مدني عادوا إلى منازلهم في مدن وأرياف المحافظة بعد فكّ الحصار منذ عام ونصف عام، مستفيدين من عودة الخدمات الحكومية»، مؤكدة أنه «تمت تسوية أوضاع أكثر من 6 آلاف مدني منذ بداية العام الجاري».
على رغم انتهاء مرحلة الإرهاب، واندحاره عن كامل جغرافية المنطقة الشرقية، إلا أن كثيراً مِمَّن فقدوا منازلهم لا يزالون غير قادرين على العودة إليها، فيما لا تزال «الإدارة الذاتية» تحتجز آلاف المدنيين في مخيماتها، وتمنعهم من العودة إلى منازلهم، على رغم أنها أعلنت قبل أكثر من أسبوعين بدء الاستعدادات لعودة قاطني مخيم الهول من السوريين إلى مناطقهم، تحت ضغط التظاهرات والمطالب العشائرية.



قصة النزوح
لا إحصائية دقيقة لعدد الوافدين الذين قصدوا الحسكة منذ أوّل الحرب، إلا أن أرقاماً حكومية حصلت عليها «الأخبار» قَدّرت أعداد العائلات التي وفدت إلى المحافظة وتقطن فيها بـ18200 عائلة، مكوّنة من 141500 فرد. في صيف عام 2014، ولّدت هجمات «داعش» على الموصل وسنجار موجة نزوح كبيرة باتجاه مناطق شمال الحسكة، ليصل عدد الفارّين من هناك إلى أكثر من مئة ألف، بعضهم قصدوا الأراضي السورية كممرّ باتجاه شمال العراق، فيما بعضهم الآخر استقرّوا فيها لعدة أشهر، في مخيمَي عين الخضرا والمالكية، قبل أن يعودوا إلى بلادهم. وتحوّلت الحسكة، في عامي 2014 و2015 إلى ممرّ عبور للمهاجرين إلى أوروبا، سواء عبر تركيا أو شمال العراق، بينما شهدت المحافظة بعد عام 2016 قدوم آلاف الأسر من أرياف الرقة ودير الزور وحلب، بعد انطلاق عمليات عسكرية ضد مناطق سيطرة «داعش». وتوزَّع النزوح الأخير على المخيمات المنتشرة في الحسكة والرقة، وعلى مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية»، على خلفية الخوف من الملاحقات الأمنية في حال قصدوا المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية.